مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٠٨
أنه بكمال عقله لما نظر إلى عظيم نعم اللّه تعالى عليه، حيث أخرجه من العدم إلى الوجود وأعطاه الحياة والعقل وأنواع النعم، ثقل عليه نعم اللّه وكاد ينقض ظهره من الحياء، لأنه عليه السلام كان يرى أن نعم اللّه عليه لا تنقطع، وما كان يعرف أنه كيف كان يطيع ربه، فلما جاءته النبوة والتكليف وعرف أنه كيف ينبغي له أن يطيع ربه، فحينئذ قل حياؤه وسهلت عليه تلك الأحوال، فإن اللئيم لا يستحي من زيادة النعم بدون مقابلتها بالخدمة، والإنسان الكريم النفس إذا كثر الإنعام عليه وهو لا يقابلها بنوع من أنواع الخدمة، فإنه يثقل ذلك عليه جدا، بحيث يميته الحياء، فإذا كلفه المنعم بنوع خدمة سهل ذلك عليه وطاب قلبه. ثم قال تعالى :
[سورة الشرح (٩٤) : آية ٤]
وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)
واعلم أنه عام في كل ما ذكروه من النبوة، وشهرته في الأرض والسموات، اسمه مكتوب على العرش، وأنه يذكر معه في الشهادة والتشهد، وأنه تعالى ذكره في الكتب المتقدمة، وانتشار ذكره في الآفاق، وأنه ختمت به النبوة، وأنه يذكر في الخطب والأذان ومفاتيح الرسائل، وعند الختم وجعل ذكره في القرآن مقرونا بذكره :
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة : ٦٢]، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء : ١٣] وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النور : ٥٤] ويناديه باسم الرسول والنبي، حين ينادي غيره بالاسم يا موسى يا عيسى، وأيضا جعله في القلوب بحيث يستطيبون ذكره وهو معنى قوله تعالى : سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا [مريم : ٩٦] كأنه تعالى يقول : أملأ العالم من أتباعك كلهم يثنون عليك ويصلون عليك ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعه سنة فهم يمتثلون في الفريضة أمري، وفي السنة أمرك وجعلت طاعتك طاعتي وبيعتك بيعتي مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء : ٨٠] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح : ١٠] لا تأنف السلاطين من أتباعك، بل جراءة لأجهل الملوك أن ينصب خليفة من غير قبيلتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معاني فرقانك، والوعاظ يبلغون وعظك / بل العلماء والسلاطين يصلون إلى خدمتك، ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق إلى يوم القيامة.
[سورة الشرح (٩٤) : الآيات ٥ إلى ٦]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن المشركين كانوا يعيرون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالفقر، ويقولون : إن كان غرضك من هذا الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة، فشق ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى سبق إلى وهمه أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيرا حقيرا عندهم، فعدد اللّه تعالى عليه مننه في هذه السورة، وقال : أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح : ١، ٢] أي ما كنت فيه من أمر الجاهلية، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل عن قلبه ما حصل فيه من التأذي بسبب أنهم عيروه بالفقر، والدليل عليه دخول الفاء في قوله : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كأنه تعالى قال لا يحزنك ما يقول وما أنت فيه من القلة، فإنه يحصل في الدنيا يسر كامل.