مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢١٩
[سورة العلق (٩٦) : آية ٥]
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)
فيحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضا غير ذلك ولم يذكر واو النسق، وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول : أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات، ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحدا ويكون المعنى : علم الإنسان بالقلم ما لم يعلمه، فيكون قوله : عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بيانا لقوله :
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق : ٤].
[سورة العلق (٩٦) : آية ٦]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أكثر المفسرين على أن المراد من الإنسان هاهنا إنسان واحد وهو أبو جهل، ثم منهم من قال : نزلت السورة من هاهنا إلى آخرها في أبي جهل. وقيل : نزلت من قوله : أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً [العلق : ٩] إلى آخر السورة في أبي جهل.
قال ابن عباس : كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يصلي فجاء أبو جهل، فقال : ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال / أبو جهل : واللّه إنك لتعلم أني أكثر أهل الوادي ناديا، فأنزل اللّه تعالى : فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق : ١٧، ١٨]
قال ابن عباس : واللّه لو دعا ناديه لأخذته زبانية اللّه، فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر، فهو عند ذلك ازداد طغيانا وتعززا بماله ورئاسته في مكة. ويروى أنه قال : ليس بمكة أكرم مني. ولعله لعنه اللّه قال ذلك ردا لقوله : وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [العلق : ٣] ثم القائلون بهذا القول منهم من زعم أنه ليست هذه السورة من أوائل ما نزل ومنهم من قال : يحتمل أن يكون خمس آيات من أول السورة نزلت أولا، ثم نزلت البقية بعد ذلك في شأن أبي جهل، ثم أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بضم ذلك إلى أول السورة، لأن تأليف الآيات إنما كان يأمر اللّه تعالى، ألا ترى أن قوله تعالى :
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة : ٢٨١] آخر ما نزل عند المفسرين ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل القول الثاني : أن المراد من الإنسان المذكور في هذه الآية جملة الإنسان، والقول الأول وإن كان أظهر بحسب الروايات، إلا أن هذا القول أقرب بحسب الظاهر، لأنه تعالى بين أن اللّه سبحانه مع أنه خلقه من علقة، وأنعم عليه بالنعم التي قدمنا ذكرها، إذ أغناه، وزاد في النعمة عليه فإنه يطغى ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع هوى النفس، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة، ثم إنه تعالى أكد هذا الزجر بقوله : إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
[العلق : ٨] أي إلى حيث لا مالك سواه، فتقع المحاسبة على ما كان منه من العمل والمؤاخذة بحسب ذلك.
المسألة الثانية : قوله : كَلَّا فيه وجوه أحدها : أنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة اللّه بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وثانيها : قال مقاتل : كلا لا يعلم الإنسان إن اللّه هو الذي خلقه من العلقة وعلمه بعد الجهل، وذلك لأنه عند صيرورته غنيا يطغى ويتكبر، ويصير مستغرق القلب في حب الدنيا فلا يتفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها وثالثها : ذكر الجرجاني صاحب «النظم» أن كلا هاهنا بمعنى حقا لأنه ليس قبله ولا بعده شي ء


الصفحة التالية
Icon