مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٢٠
تكون كَلَّا ردا له، وهذا كما قالوه في : كَلَّا وَالْقَمَرِ [المدثر : ٣٢] فإنهم زعموا أنه بمعنى : إي والقمر.
المسألة الثالثة : الطغيان هو التكبر والتمرد، وتحقيق الكلام في هذه الآية أن اللّه تعالى لما ذكر في مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة بحيث يبعد من العاقل أن لا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها أتبعها بما هو السبب الأصلي في الغفلة عنها وهو حب الدنيا والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة، فإنه لا سبب لعمى القلب في الحقيقة إلا ذلك فإن قيل : إن فرعون ادعى الربوبية، فقال اللّه تعالى في حقه :
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه : ٢٤] وهاهنا ذكر في أبي جهل : لَيَطْغى فأكده بهذه اللام، فما السبب في هذه الزيادة؟ قلنا : فيه وجوه أحدها : أنه قال لموسى : اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى وذلك قبل أن يلقاه موسى، وقبل أن يعرض عليه الأدلة، وقبل أن يدعي الربوبية وأما هاهنا فإنه تعالى ذكر هذه الآية تسلية لرسوله حين رد عليه أقبح الرد وثانيها : أن فرعون مع كمال سلطته ما كان يزيد كفره على القول، وما كان ليتعرض لقتل موسى عليها السلام ولا لإيذائه وأما أبو جهل فهو مع قلة جاهه كان / يقصد قتل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وإيذاءه وثالثها : أن فرعون أحسن إلى موسى أولا، وقال آخرا : آمَنْتُ [يونس : ٩٠]. وأما أبو جهل فكان يحسد النبي في صباه، وقال في آخر رمقه : بلغوا عني محمدا أني أموت ولا أحد أبغض إلي منه ورابعها : أنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين، والعاقل يصون عينه فوق ما يصون يده، بل يصون عينه باليد، فلهذا السبب كانت المبالغة هاهنا أكثر. أما قوله تعالى :
[سورة العلق (٩٦) : آية ٧]
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الأخفش : لأن رآه فحذف اللام، كما يقال : أنكم لتطغون أن رأيتم غناكم.
المسألة الثانية : قال الفراء إنما قال : أَنْ رَآهُ ولم يقل : رأى نفسه كما يقال : قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تستدعي اسما وخبرا نحو الظن والحسبان، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس فنقول : رأيتني وظننتني وحسبتني فقوله : أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى من هذا الباب.
المسألة الثالثة : في قوله : اسْتَغْنى وجهان : أحدهما : استغنى بماله عن ربه، والمراد من الآية ليس هو الأول، لأن الإنسان قد ينال الثروة فلا يزيد إلا تواضعا كسليمان عليه السلام، فإنه كان يجالس المساكين ويقول :«مسكين جالس مسكينا» وعبد الرحمن بن عوف ما طغى مع كثرة أمواله، بل العاقل يعلم أنه عند الغنى يكون أكثر حاجة إلى اللّه تعالى منه حال فقره، لأنه في حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه، وأما حال الغنى فإنه يتمنى سلامة نفسه وماله ومماليكه، وفي الآية وجه ثالث :«١» وهو أن سين اسْتَغْنى سين الطالب والمعنى أن الإنسان رأى أن نفسه إنما نالت الغنى لأنها طلبته وبذلت الجهد في الطلب فنالت الثروة والغنى بسبب ذلك الجهد، لا أنه نالها بإعطاء اللّه وتوفيقه، وهذا جهل وحمق فكم من باذل وسعه في الحرص والطلب وهو يموت جوعا، ثم ترى أكثر الأغنياء في الآخرة يصيرون مدبرين خائفين، يريهم اللّه أن ذلك الغنى ما كان بفعلهم وقوتهم.

(١) لم يذكر الوجه الثاني كما ترى ولعله سقط من الناسخ. [.....]


الصفحة التالية
Icon