مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٣٢
واعلم أن من أحياها فكأنما عبد اللّه تعالى نيفا وثمانين سنة، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعمارا كثيرة، ومن أحيا الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ثلاثين قدرا، يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد اللّه أربعمائة سنة، ويجاء برجل من هذه الأمة، وقد عبد اللّه أربعين سنة فيكون ثوابه أكثر، فيقول الإسرائيلي :
أنت العدل، وأرى ثوابه أكثر، فيقول : لأنكم كنتم تخافون العقوبة المعجلة فتعبدون، وأمة محمد كانوا آمنين لقوله : وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال : ٣٣] ثم إنهم كانوا يعبدون، فلهذا السبب كانت عبادتهم أكثر ثوابا، وأما التهديد فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار، وأن إحياء مائة ليلة من القدر لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق بتطفيف حبة واحدة، فلهذا فيه إشارة إلى تعظيم حال الذنب والمعصية.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : صح عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
أنه قال :«أجرك على قدر نصبك»
ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أشق من الطاعة في ليلة واحدة، فكيف يعقل استواؤهما؟ والجواب : من وجوه :
أحدها : أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه المنضمة إليه، ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بكذا درجة، مع أن الصورة قد تنتقض فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة، وأيضا / فأنت تقول لمن يرجم : إنه إنما يرجم لأنه زان فهو قول حسن، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزيز، ولو قلته للمحصن فهو يوجب الحد، فقد اختلفت الأحكام في هذه المواضع، مع أن الصورة واحدة في الكل، بل لو قلته في حق عائشة كان كفرا، ولذلك قال : وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور : ١٥] وذلك لأن هذا طعن في حق عائشة التي كانت رحلة في العلم،
لقوله عليه السلام :«خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء»
وطعن في صفوان مع أنه كان رجلا بدريا، وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين، وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كان كافرا، بل طعن في النبي الذي كان أشد خلق اللّه غيرة، بل طعن في حكمة اللّه إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية، ثم القائل بقوله : هذا زان، فقد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال، فقد ثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها، فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة والوجه الثاني : في الجواب أن مقصود الحكيم سبحانه أن يجر الخلق إلى الطاعات فتارة يجعل ثمن الطاعة ضعفين، فقال : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح : ٥، ٦] ومرة عشرا، ومرة سبعمائة، وتارة بحسب الأزمنة، وتارة بحسب الأمكنة، والمقصود الأصلي من الكل جر المكلف إلى الطاعة وصرفه عن الاشتغال بالدنيا، فتارة يرجح البيت وزمزم على سائر البلاد، وتارة يفضل رمضان على سائر الشهور، وتارة يفضل الجمعة على سائر الأيام، وتارة يفضل ليلة القدر على سائر الليالي، والمقصود ما ذكرناه الوجه الثاني : من فضائل هذه الليلة.
[سورة القدر (٩٧) : آية ٤]
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤)
قوله تعالى : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن نظر الملائكة على الأرواح، ونظر البشر على الأشباح، ثم إن الملائكة لما رأوا روحك محلا للصفات الذميمة من الشهوة والغضب ما قبلوك فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وأبواك لما رأوا قبح صورتك في أول الأمر حين كنت منيا وعلقة ما قبلوك أيضا، بل أظهروا النفرة، واستقذروا


الصفحة التالية
Icon