مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٣٣
ذلك المني والعلقة، وغسلوا ثيابهم عنه، ثم كم احتالوا للإسقاط والإبطال، ثم إنه تعالى لما أعطاك الصورة الحسنة فالأبوان لما رأوا تلك الصورة الحسنة قبلوك ومالوا إليك، فكذا الملائكة لما رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة اللّه وطاعته أحبوك فنزلوا إليك معتذرين عما قالوه أولا، فهذا هو المراد من قوله : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن، وظلمة القوى الجسمانية فحينئذ يعتذرون عما تقدم ويستغفرون للذين آمنوا.
المسألة الثانية : أن قوله تعالى : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ يقتضي ظاهره نزول كل الملائكة، ثم الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتمل كلهم الأرض، فلهذا السبب اختلفوا فقال بعضهم : إنها تنزل بأسرها إلى السماء الدنيا، فإن قيل الإشكال بعد باق لأن السماء مملوءة بحيث لا يوجد فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك، فكيف تسع الجميع سماء واحدة؟ قلنا : يقضي بعموم الكتاب على خبر الواحد، كيف والمروي إنهم ينزلون فوجا فوجا فمن نازل وصاعد كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلية لكن الناس بين داخل وخارج، ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر فلذلك ذكر بلفظ : تَنَزَّلُ الذي يفيد المرة بعد المرة.
والقول الثاني : وهو اختيار الأكثرين أنهم ينزلون إلى الأرض وهو الأوجه، لأن الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة، ولأنه دلت الأحاديث على أن الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلى مجالس الذكر والدين، فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علو شأنها أولى، ولأن النزول المطلق لا يفيد إلا النزول من السماء إلى الأرض، ثم اختلف من قال : ينزلون إلى الأرض على وجوه : أحدها : قال بعضهم : ينزلون ليروا عبادة البشر وجدهم واجتهادهم في الطاعة وثانيها : أن الملائكة قالوا : وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم : ٦٤] فهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بذلك النزولى فلا يدل على غاية المحبة.
وأما هذه الآية وهو قوله : بِإِذْنِ رَبِّهِمْ فإنها تدل على أنهم استأذنوا أولا فأذنوا، وذلك يدل على غاية المحبة، لأنهم كانوا يرغبون إلينا ويتمنون لقاءنا لكن كانوا ينتظرون الإذن، فإن قيل قوله : وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات : ١٦٥] ينافي قوله : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ قلنا نصرف الحالتين إلى زمانين مختلفين وثالثها : أنه تعالى وعد في الآخرة أن الملائكة : يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد : ٢٣، ٢٤] فههنا في الدنيا إن اشتغلت بعبادتي نزلت الملائكة عليك حتى يدخلوا عليك للتسلم والزيارة،
روي عن علي عليه السلام :«أنهم ينزلون ليسلموا علينا وليشفعوا لنا فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه»
ورابعها : أن اللّه تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إلى الأرض لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعته هناك أكثر ثوابا، وكل ذلك ترغيب للإنسان في الطاعة وخامسها : أن الإنسان يأتي بالطاعات والخيرات عند حضور الأكابر من العلماء والزهاد أحسن مما يكون في الخلوة، فاللّه تعالى أنزل الملائكة المقربين حتى إن المكلف يعلم أنه إنما يأتي بالطاعات في حضور أولئك العلماء العباد الزهاد فيكون أتم وعن النقصان أبعد وسادسها : أن من الناس من خص لفظ الملائكة ببعض فرق الملائكة، عن كعب أن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة، فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة، وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا اللّه يعبدون اللّه ومقام جبريل في وسطها، ليس فيها ملك إلا وقد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين ينزلون مع جبريل ليلة القدر، فلا تبقى بقعة من الأرض إلا وعليها ملك


الصفحة التالية
Icon