مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٤٤
أما قوله تعالى : حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ففيه أقوال :
الأول : قال مجاهد : متبعين دين إبراهيم عليه السلام، ولذلك قال : ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً / وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل : ١٢٣] وهذا التفسير فيه لطيفة كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مسئول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضا بالكلية، فلا جرم ذكر قوما أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم، وهو إبراهيم ومن معه، فقال : قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة : ٤] فكأنه تعالى قال : إن كنت تقلد أحدا في دينك، فكن مقلدا إبراهيم، حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران، ومن ما حين بذله للضيفان، ومن ولده حين بذله للقربان، بل
روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه، ولم ير شخصا فاستعاده، فقال : أما بغير أجر فلا، فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام، وقال : حق لك حيث سماك خليلا فخذ مالك،
فإن القائل : كنت أنا، بل انقطع إلى اللّه حتى عن جبريل حين قال : أما إليك فلا، فالحق سبحانه كأنه يقول : إن كنت عابدا فاعبد كعبادته، فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين، أما تترك الحرام وموافقة الشياطين، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم، فاجتهد في متابعة ولده الصبي، كيف انقاد لحكم ربه مع صغره، فمد عنقه لحكم الرؤيا، وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل، وهو أم الذبيح، كيف تجرعت تلك الغصة، ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الاثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإرث، والرقيقة نصف الحرة بدليل أن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل، ثم انظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف، لا يكلمها ولا يعطف عليها، قالت آللّه أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه نعم، فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق.
والقول الثاني : المراد من قوله : حُنَفاءَ أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة، وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل، كقولنا : للأعمى بصير وللمهلكة مفازة، ونظيره قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت : ٣٠] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة : ٦].
والقول الثالث : قال ابن عباس رضي اللّه عنهما حجاجا، وذلك لأنه ذكر العباد أولا ثم قال : حنفاء وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال الرابع : قال أبو قلابة / الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحدا منهم، فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفا الخامس : حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين،
قال عليه السلام :«بعثت بالحنيفية السهلة السمحة»
السادس : قال قتادة : هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم، فقوله : حُنَفاءَ إشارة إلى النفي، ثم أردفه بالإثبات، وهو قوله : وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ السابع : قال أبو مسلم : أصله من الحنف في الرجل، وهو إدبار إبهامها عن أخواتها حتى يقبل على إبهام الأخرى، فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام الثامن : قال الربيع بن أنس : الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته، وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول :
وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا، وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مرارا كثيرة، ثم قال : وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المبرد والزجاج : ذلك دين الملة القيمة، فالقيمة نعت لموصوف محذوف، والمراد


الصفحة التالية
Icon