مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٤٥
من القيمة إما المستقيمة أو القائمة، وقد ذكرنا هذين القولين في قوله : كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وقال الفراء : هذا من إضافة النعت إلى المنعوت، كقوله : إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة : ٩٥] والهاء للمبالغة كما في قوله :
كُتُبٌ قَيِّمَةٌ.
المسألة الثانية : في هذه الآية لطائف إحداها : أن الكمال في كل شيء إنما يحصل إذا حصل الأصل والفرع معا، فقوم أطنبوا في الأعمال من غير إحكام الأصول، وهم اليهود والنصارى والمجوس، فإنهم ربما اتعبوا أنفسهم في الطاعات، ولكنهم ما حصلوا الدين الحق، وقوم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع، وهم المرجئة الذين قالوا : لا يضر الذنب مع الإيمان، واللّه تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية، وبين أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله : مُخْلِصِينَ ومن العمل في قوله : وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ثم قال :
وَذلِكَ المجموع كله هو دِينُ الْقَيِّمَةِ أي البينة المستقيمة المعتدلة، فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هذا المجموع دين واحد فقلب دينك الاعتقاد ووجهه الصلاة ولسانه الواصف لحقيقته الزكاة لأن باللسان يظهر قدر فضلك وبالصدقة يظهر قدر دينك، ثم إن القيم من يقوم بمصالح من يعجز عن إقامة مصالح نفسه فكأنه سبحانه يقول : القائم بتحصيل مصالحك عاجلا وآجلا هو هذا المجموع، ونظيره قوله تعالى : دِيناً قِيَماً [الأنعام : ١٦١] وقوله في القرآن : قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف : ٢] لأن القرآن هو القيم بالإرشاد إلى الحق، ويؤيده
قوله عليه السلام :«من كان في عمل اللّه كان اللّه في عمله»
وأوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السلام :«يا دنيا من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه»،
وثانيها : أن المحسنين في أفعالهم هم مثل الحق سبحانه وذلك بالإحسان إلى عبيده والملائكة، وذلك بأنهم اشتغلوا بالتسبيح لخالقهم فالإحسان من اللّه لا من الملائكة، والتعظيم والعبودية من الملائكة لا من اللّه، ثم إن الإنسان إذا حضر عرصة القيامة فيقول اللّه مباهيا بهم : ملائكتي هؤلاء أمثالكم سبحوا وهللوا، بل في بعض الأفعال أمثالي أحسنوا / وتصدقوا، ثم إني أكرمكم يا ملائكتي بمجرد ما أتيتم به من العبودية وأنتم تعظموني بمجرد ما فعلت من الإحسان، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين، أقاموا الصلاة أتوا بالعبودية وآتوا الزكاة أتوا بالإحسان، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين وهم صبروا على الأمرين، فتتعجب الملائكة منهم وينصبون إليهم النظارة، فلهذا قال : وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرعد : ٢٣، ٢٤] أفلا يكون هذا الدين قيما وثالثها : أن الدين كالنفس فحياة الدين بالمعرفة ثم النفس العالمة بلا قدرة كالزمن العاجز، والقادرة بلا علم مجنونة فإذا اجتمع العلم والقدرة كانت النفس كاملة فكذا الصلاة للدين كالعلم والزكاة كالقدرة، فإذا اجتمعتا سمي الدين قيمة ورابعها : وهو فائدة الترتيب أن الحكيم تعالى أمر رسوله أن يدعوهم إلى أسهل شيء، وهو القول والاعتقاد فقال :
مُخْلِصِينَ ثم لما أجابوه زاده، فسألهم الصلاة التي بعد أدائها تبقى النفس سالمة كما كانت، ثم لما أجابوه وأراد منهم الصدقة وعلم أنها تشق عليهم قال :«لا زكاة في مال يحول عليه الحول» ثم لما ذكر الكل قال :
وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.
المسألة الثالثة : احتج من قال : الإيمان عبادة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل، بهذه الآية فقال :
مجموع القول والفعل والعمل هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان فإذا مجموع القول والفعل والعمل هو الإيمان، لأنه تعالى ذكر في هذه الآية مجموع الثلاثة ثم قال : وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ أي وذلك


الصفحة التالية
Icon