مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٤٩
يدخل فيه الملك وثالثها : أن الملك خرج عن النص بسائر الدلائل، قالوا : وذلك لأن الفضيلة إما مكتسبة أو موهوبة، فإن نظرت إلى الموهوبة فأصلهم من نور وأصلك من حمأ مسنون، ومسكنهم دار لم يترك فيها أبوك مع الزلة ومسكنكم أرض هي مسكن الشياطين، وأيضا فمصالحنا منتظمة بهم ورزقنا في يد البعض وروحنا في يد البعض، ثم هم العلماء ونحن المتعلمون، ثم انظر إلى عظيم همتهم لا يميلون إلى محقرات الذنوب، ومن ذلك فإن اللّه تعالى لم يحك عنهم سوى دعوى الإلهية حين قال : وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ [الأنبياء : ٢٩] أي لو أقدموا على ذنب فهمتهم بلغت غاية لا يليق بها إلا دعوى الربوبية، وأنت أبدا عبد البطن والفرج، وأما العبادة فهم أكثر عبادة من النبي لأنه تعالى مدح النبي بإحياء ثلثي الليل وقال فيهم : يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء : ٢٠] ومرة : لا يَسْأَمُونَ [فصلت : ٣٨] وتمام القول في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة.
[سورة البينة (٩٨) : آية ٨]
جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
[في قوله تعالى جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ] اعلم أن التفسير ظاهر ونحن نذكر ما فيها من اللطائف في مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقا من المحن والآفات، فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكيا لا للفراق ولكن مشتكيا من وحشة الحبس ليرحم، كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم، ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدودا في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوا في المهد وشدوه بالقماط، ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم، ثم بعد ذلك شذ بمسامير العقل والتكليف، ثم إن المكلف يصير كالمتحير، يقول : من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جناية؟ فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل، فوجده عالما لا يشبه العالمين، وقادرا لا يشبه القادرين، وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة، لكن حقيقته محض الكرم والرحمة، فترك الشكاية وأقبل على الشكر، ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة، فجعل قلبه مسكنا لسلطان عرفانه، فكأن الحق قال : عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى / لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد : يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته، وكذا حب الأب والأم، وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل.
أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي، ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول، فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار، والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم، وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح، فيقول اللّه : عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة، فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا، فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة، فلهذا قال : جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بل كأن الكريم الرحيم يقول : عبدي أعطاني كل ما ملكه، وأنا أعطيته بعض ما في ملكي، وأنا أولى منه بالكرم والجود، فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوبا دائما مخلدا، حتى يكون دوامه وخلوده جابرا لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية.


الصفحة التالية
Icon