مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٦٠
على ذلك التقدير تكون السنابك نفسها كالحديد قال قوم : هذه الآيات في الخيل، ولكن إبراؤها أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم، كما قال تعالى : كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة : ٦٤] ومنه يقال للحرب إذا التحمت : حمي الوطيس وثالثها : هم الذين يغزون فيورون بالليل نيرانهم لحاجتهم وطعامهم فَالْمُورِياتِ هم الجماعة من الغزاة ورابعها : إنها هي الألسنة توري نار العداوة لعظم ما تتكلم به وخامسها : هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة، روي ذلك عن ابن عباس، ويقال : لأقدحن لك ثم لأورين لك، أي لأهيجن عليك شرا وحربا، وقيل : هو المكر إلا أنه مكر بإيقاد النار ليراهم العدو كثيرا، ومن عادة العرب عند الغزو إذا قربوا من العدو أن يوقدوا نيرانا كثيرة لكي إذا نظر العدو إليهم ظنهم كثيرا وسادسها : قال عكرمة : الموريات قدحا الأسنة وسابعها : فَالْمُورِياتِ قَدْحاً أي فالمنجحات أمرا، يعني الذين وجدوا مقصودهم وفازوا بمطلوبهم من الغزو والحج، ويقال للمنجح في حاجته : ورى زنده، ثم يرجع هذا إلى الجماعة المنجحة، ويجوز أن يرجع إلى الخيل ينجح ركبانها قال جرير :
وجدنا الأزد أكرمهم جوادا وأوراهم إذا قدحوا زنادا
ويقال : فلان إذا قدح أورى، وإذا منح أورى، واعلم أن الوجه الأول أقرب لأن لفظ الإيراء حقيقة في إيراء النار، وفي غيره مجاز، ولا يجوز ترك الحقيقة بغير دليل. أما قوله تعالى :
[سورة العاديات (١٠٠) : آية ٣]
فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣)
يعني الخيل تغير على العدو وقت الصبح، وكانوا يغيرون صباحا لأنهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئا، وأما النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدين للمدافعة والمحاربة، أما هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد. وأما الذين حملوا هذه الآيات على الإبل قالوا : المراد هو الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى، والسنة أن لا تغير حتى تصبح، ومعنى الإغارة في اللغة الإسراع، يقال : أغار إذا أسرع وكانت العرب في الجاهلية تقول : أشرق ثبير كيما نغير أي نسرع في الإفاضة. أما قوله :
[سورة العاديات (١٠٠) : آية ٤]
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤)
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في النقع قولان : أحدهما : أنا هو الغبار وقيل : إنه مأخوذ من نقع الصوت إذا ارتفع، فالغبار يسمى نقعا لارتفاعه، وقيل : هو من النقع في الماء، فكأن صاحب الغبار غاص فيه، كما يغوص الرجل في الماء والثاني : النقع الصباح من
قوله عليه الصلاة والسلام :«ما لم يكن نقع ولا لقلقة»
أي فهيجن في المغار عليهم صياح النوائح، وارتفعت أصواتهن، ويقال : ثار الغبار والدخان، أي ارتفع وثار القطا عن مفحصه، وأثرن الغبار أي هيجنه، والمعنى أن الخيل أثرن الغبار لشدة العدو في الموضع الذي أغرن فيه.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : بِهِ إلى ماذا يعود؟ فيه وجوه أحدها : وهو قول الفراء أنه عائد إلى المكان الذي انتهى إليه، والموضع الذي تقع فيه الإغارة، لأن في قوله : فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً دليلا على أن الإغارة لا بد لها من وضع، وإذا علم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجز ذكره بالتصريح كقوله : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي


الصفحة التالية
Icon