مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٢٤
قوله : قُلْ يوجب كونه رسولا من عند اللّه، فكلما قيل له : قُلْ كان ذلك كالمنشور الجديد في ثبوت رسالته، وذلك يقتضي المبالغة في تعظيم الرسول، فإن الملك إذا فوض مملكته إلى بعض عبيده، فإذا كان يكتب له كل شهر وسنة منشورا جديدا دل ذلك على غاية اعتنائه بشأنه، وأنه على عزم أن يزيده كل يوم تعظيما وتشريفا وسادسها : أن الكفار لما قالوا : نعبد إلهك سنة، وتعب د آلهتنا سنة، فكأنه عليه السلام قال : استأمرت إليه فيه.
فقال : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وسابعها : الكفار قالوا فيه السوء، فهو تعالى زجرهم عن ذلك، وأجابهم وقال : إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر : ٣] وكأنه تعالى قال : حين ذكروك بسوء، فأنا كنت المجيب بنفسي، فحين ذكروني بالسوء وأثبتوا لي الشركاء، فكن أنت المجيب : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وثامنها : أنهم سموك أبتر، فإن شئت أن تستوفي منهم القصاص، فاذكرهم بوصف ذم بحيث تكون صادقا فيه : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لكن الفرق أنهم عابوك بما ليس من فعلك وأنت تعيبهم بما هو فعلهم وتاسعها : أن بتقدير أن تقول : يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدونه، والكفار يقولون : هذا كلام ربك أم كلامك، فإن كان كلام ربك فربك يقول : أنا لا أعبد هذه الأصنام، ونحن لا نطلب هذه العبادة من ربك إنما نطلبها منك، وإن كان هذا كلامك فأنت قلت من عند نفسك إني لا أعبد هذه الأصنام، فلم قلت : إن ربك هو الذي أمرك بذلك، أما لما قال : قل، سقط هذا الاعتراض لأن قوله : قُلْ يدل على أنه مأمور من عند اللّه تعالى بأن لا يعبدها ويتبرأ منها وعاشرها : أنه لو أنزل قوله : يا أيها الكافرون لكان يقرؤها عليهم لا محالة، لأنه لا يجوز أن يخون في الوحي إلا أنه لما قال : قُلْ كان ذلك كالتأكيد في إيجاب تبليغ هذا الوحي إليهم، والتأكيد يدل على أن ذلك الأمر أمر عظيم فبهذا الطريق تدل هذه الكلمة على أن الذي قالوه وطلبوه من الرسول أمر منكر في غاية القبح ونهاية الفحش الحادي عشر : كأنه تعالى يقول كانت التقية جائزة عند الخوف، أما الآن لما قوينا قلبك بقولنا : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وبقولنا : إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون الثاني عشر : أن خطاب اللّه تعالى مع العبد من غير واسطة يوجب التعظيم ألا ترى أنه تعالى ذكر
من أقسام إهانة الكفار أنه تعالى لا يكلمهم، فلو قال :(يا أيها الكافرون) لكان ذلك من حيث إنه خطاب مشافهة يوجب التعظيم، ومن حيث إنه وصف لهم بالكفر يوجب الإيذاء فينجبر الإيذاء بالإكرام، أما لما قال : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فحينئذ يرجع تشريف / المخاطبة إلى محمد ﷺ، وترجع الإهانة الحاصلة لهم بسبب وصفهم بالكفر إلى الكفار، فيحصل فيه تعظيم الأولياء، وإهانة الأعداء، وذلك هو النهاية في الحسن الثالث عشر : أن محمدا عليه السلام كان منهم، وكان في غاية الشفقة عليهم والرأفة بهم، وكانوا يعلمون منه أنه شديد الاحتراز عن الكذب، والأب الذي يكون في غاية الشفقة بولده، ويكون في نهاية الصدق والبعد عن الكذب ثم إنه يصف ولده بعيب عظيم فالولد إن كان عاقلا يعلم أنه ما وصفه بذلك مع غاية شفقته عليه إلا لصدقه في ذلك ولأنه بلغ مبلغا لا يقدر على إخفائه، فقال تعالى قل يا محمد لهم أيها الكافرون ليعلموا أنك لما وصفتهم بذلك مع غاية شفقتك عليهم وغاية احترازك عن الكذب فهم موصوفون بهذه الصفة القبيحة، فربما يصير ذلك داعيا لهم إلى البراءة من هذه الصفة والاحتراز عنها الرابع عشر : أن الإيذاء والايحاش من ذوي القربى أشد وأصعب من الغير فأنت من قبيلتهم، ونشأت فيما بين أظهرهم فقل لهم : يا أيها الكافرون فلعله يصعب ذلك الكلام عليهم، فيصير ذلك داعيا لهم إلى البحث والنظر والبراءة عن الكفر الخامس عشر : كأنه تعالى يقول : ألسنا بينا في سورة : وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا