مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٢٥
بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ
وفي سورة الكوثر : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وأتيت بالإيمان والأعمال الصالحات بمقتضى قولنا : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ بقي عليك التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وذلك هو أن تمنعهم بلسانك وبرهانك عن عبادة غير اللّه، فقل : يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون السادس عشر : كأنه تعالى يقول
يا محمد أنسيت أنني لما أخرت الوحي عليك مدة قليلة، قال الكافرون : إنه ودعه ربه وقلاه، فشق عليك ذلك غاية المشقة، حتى أنزلت عليك السورة، وأقسمت بالضحى والليل إذا سجى أنه ما ودعك ربك وما قلى فلما لم تستجز أن أتركك شهرا ولم يطب قلبك حتى ناديت في العالم بأنه ما ودعك ربك وما قلى أفتستجيز أن تتركني شهرا وتشتغل بعبادة آلهتهم فلما ناديت بنفي تلك التهمة، فناد أنت أيضا في العالم بنفي هذه التهمة وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، السابع عشر : لما سألوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، فهو عليه السلام سكت ولم يقل شيئا، لا لأنه جوز في قلبه أن يكون الذي قالوه حقا، فإنه كان قاطعا بفساد ما قالوه لكنه عليه السلام، توقف في أنه بما ذا يجيبهم؟ أبأن يقيم الدلائل العقلية على امتناع ذلك أو بأن يزجرهم بالسيف أو بأن ينزل اللّه عليهم عذابا، فاغتنم الكفار ذلك السكوت وقالوا : إن محمدا مال إلى ديننا، فكأنه تعالى قال : يا محمد إن توقفك عن الجواب في نفس الأمر حق ولكنه أوهم باطلا، فتدارك إزالة ذلك الباطل، وصرح بما هو الحق وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون الثامن عشر : أنه عليه السلام لما قال له ربه ليلة المعراج : أثن علي استولى عليه هيبة الحضرة الإلهية فقال : لا أحصي ثناء عليك، فوقع ذلك السكوت منه في غاية الحسن فكأنه / قيل له : إن سكت عن الثناء رعاية لهيبة الحضرة فأطلق لسانك في مذمة الأعداء وقل يا أيها الكافرون حتى يكون سكوتك اللّه وكلامك اللّه، وفيه تقرير آخر وهو أن هيبة الحضرة سلبت عنك قدرة القول فقل : هاهنا حتى إن هيبة قولك تسلب قدرة القول عن هؤلاء الكفار التاسع عشر : لو قال له : لا تعبد ما يعبدون لم يلزم منه أن يقول بلسانه : لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أما لما أمره بأن يقول بلسانه : لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ يلزمه أن لا يعبد ما يعبدون إذ لو فعل ذلك لصار كلامه كذبا، فثبت أنه لما
قال له قل : لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ فلزمه أن يكون منكرا لذلك بقلبه ولسانه وجوارحه. ولو قال له : لا تعبد ما يعبدون لزمه تركه، أما «١» لا يلزمه إظهار إنكاره باللسان، ومن المعلوم أن غاية الإنكار إنما تحصل إذا تركه في نفسه وأنكره بلسانه فقوله له : قُلْ يقتضي المبالغة في الإنكار، فلهذا قال : قُلْ... لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ، العشرون : ذكر التوحيد ونفي الأنداد جنة للعارفين ونار للمشركين فاجعل لفظك جنة للموحدين ونارا للمشركين وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون الحادي والعشرون : أن الكفار لما قالوا نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة سكت محمد فقال : إن شافهتهم بالرد تأذوا، وحصلت النفرة عن الإسلام في قلوبهم، فكأنه تعالى قال له : يا محمد لم سكت عن الرد، أما الطمع فيما يعدونك من قبول دينك، فلا حاجة بك في هذا المعنى إليهم فإنا أعطيناك الكوثر وأما الخوف منهم فقد أزلنا عنك الخوف بقولنا : إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ فلا تلتفت إليهم، ولا تبال بكلامهم وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون الثاني والعشرون : أنسيت يا محمد أني قدمت حقك على حق نفسي، فقلت : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة : ١] فقدمت أهل الكتاب في الكفر على المشركين لأن طعن أهل الكتاب فيك وطعن المشركين في، فقدمت حقك على حق نفسي وقدمت أهل الكتاب في الذم على المشركين، وأنت

(١) الكلام يقتضي (إذ) أو (لكن) ولعل (أما) محرفة عن كلمة أخرى.


الصفحة التالية
Icon