مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٤٤
ونظيره في حديث الإفك قول عائشة :«بحمد اللّه لا بحمدك» والمعنى : فسبحه بحمده، فإنه الذي هداك دون غيره، ولذلك
روي أنه عليه السلام كان يقول :«الحمد للّه على الحمد للّه»
وسادسها : روى السدي بِحَمْدِ رَبِّكَ، أي بأمر ربك وسابعها : أن تكون البا صلة زائدة، ويكون التقدير : سبح حمد ربك، ثم فيه احتمالات أحدها : اختر له أطهر المحامد وأزكاها والثاني : طهر محامد ربك عن الرياء والسمعة، والتوسل بذكرها إلى الأغراض الدنيوية الفاسدة والثالث : طهر محامد ربك عن أن تقول : جئت بها كما يليق به وإليه الإشارة بقوله :
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام : ٩١] وثامنها : أي ائت بالتسبيح بدلا عن الحمد الواجب عليك، وذلك لأن الحمد إنما يجب في مقابلة النعم، ونعم اللّه علينا غير متناهية، فحمدها لا يكون في وسع البشر، ولذلك قال : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم : ٣٤] فكأنه تعالى يقول : أنت عاجز عن الحمد، فأت بالتسبيح والتنزيه بدلا عن الحمد وتاسعها : فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد أمران لا يجوز تأخير أحدهما عن الثاني، ولا يتصور أيضا أن يؤتى بهما معا، فنظيره من ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب وجب أن يقول :
اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع، كذا قال : فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ليقعا معا، فيصير حامدا مسبحا في وقت واحد معاو عاشرها : أن يكون المراد سبح قلبك، أي طهر قلبك بواسطة مطالعة حمد ربك، فإنك إذا رأيت أن الكل من اللّه، فقد طهرت قلبك عن الالتفات إلى نفسك وجهدك، فقوله : فَسَبِّحْ إشارة إلى نفي ما سوى اللّه تعالى، وقوله : بِحَمْدِ رَبِّكَ إشارة إلى رؤية كل الأشياء من اللّه تعالى.
المسألة الخامسة : في قوله : وَاسْتَغْفِرْهُ وجوه أحدها : لعله عليه السلام كان يتمنى أن ينتقم ممن آذاه، ويسأل اللّه أن ينصره، فلما سمع : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ استبشر، لكن لو قرن بهذه البشارة شرط أن لا ينتقم لتنغصت عليه تلك البشارة، فذكر لفظ الناس وأنهم يدخلون في دين اللّه وأمره بأن يستغفر للداخلين لكن من المعلوم أن الاستغفار لمن لا ذنب له لا يحسن فعلم النبي صلى اللّه عليه وسلم بهذا الطريق أنه تعالى ندبه إلى العفو وترك الانتقام، لأنه لما أمره بأن يطلب لهم المغفرة فكيف يحسن منه أن يشتغل بالانتقام منهم؟ ثم ختم بلفظ التواب كأنه يقول : إن قبول التوبة حرفته فكل من طلب منه التوبة أعطاه كما أن البياع حرفته بيع الأمتعة التي عنده فكل من طلب منه شيئا من تلك الأمتعة باعه منه، سواء كان المشتري عدوا أو وليا، فكذا الرب سبحانه يقبل التوبة سواء كان التائب مكيا أو مدنيا، ثم إنه عليه السلام امتثل أمر الرب تعالى فحين قالوا له : أخ كريم وابن أخ كريم قال لهم : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف : ٩٢] أي أمرني أن استغفر لكم فلا يجوز أن يردني وثالثها : أن قوله : وَاسْتَغْفِرْهُ إما أن يكون المراد واستغفر اللّه لنفسك أو لأمتك، فإن كان المراد هو الأول فهو يتفرع على أنه هل صدرت عنه معصية أم لا فمن قال : صدرت المعصية عنه ذكر في فائدة الاستغفار وجوها : أحدها : أنه لا يمتنع أن تكون كثرة الاستغفار منه تؤثر في جعل ذنبه صغيره وثانيها : لزمه الاستغفار لينجو عن ذنب الإصرار، وثالثها : لزمه الاستغفار ليصير الاستغفار جابرا للذنب الصغير فلا ينتقص من ثوابه شيء أصلا، وأما من قال : ما صدرت المعصية عنه فذكر في هذا الاستغفار وجوها : أحدها : أن استغفار النبي جار مجرى التسبيح وذلك لأنه وصف اللّه بأنه غفار وثانيها : تعبده اللّه بذلك ليقتدي به غيره إذ لا يأمن كل مكلف عن تقصير يقع منه في
عبادته، وفيه تنبيه على أنه مع شدة اجتهاده وعصمته ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف من دونه وثالثها : أن الاستغفار كان عن ترك الأفضل ورابعها : أن الاستغفار كان بسبب أن كل طاعة أتى


الصفحة التالية
Icon