مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٤٥
بها العبد فإذا قابلها بإحسان الرب وجدها قاصرة عن الوفاء بأداء شكر تلك النعمة، فليستغفر اللّه لأجل ذلك وخامسها : الاستغفار بسبب التقصير الواقع في السلوك لأن السائر إلى اللّه إذا وصل إلى مقام في العبودية، ثم تجاوز عنه فبعد تجاوزه عنه يرى ذلك المقام قاصرا فيستغفر اللّه عنه، ولما كانت مراتب السير إلى اللّه غير متناهية لا جرم كانت مراتب هذا الاستغفار غير متناهية، أما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد واستغفره لذنب أمتك فهو أيضا ظاهر، لأنه تعالى أمره بالاستغفار لذنب أمته في قوله : وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد : ١٩] فههنا لما كثرت الأمة صار ذلك الاستغفار أوجب وأهم، وهكذا إذا قلنا : المراد هاهنا أن يستغفر لنفسه ولأمته.
المسألة السادسة : في الآية إشكال وهو أن التوبة مقدمة على جميع الطاعات، ثم الحمد مقدم على التسبيح، لأن الحمد يكون بسبب الإنعام، والإنعام كما يصدر عن المنزه فقد يصدر عن غيره، فكان ينبغي أن يقع الابتداء بالاستغفار، ثم بعده يذكر الحمد، ثم بعده يذكر التسبيح، فما السبب في أن صار مذكورا على العكس من هذا الترتيب؟ وجوابه : من وجوه أولها : لعله ابتدأ بالأشرف، فالأشرف نازلا إلى الأخس فالأخس، تنبيها على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق وثانيها : فيه تنبيه على أن التسبيح والحمد الصادر عن العبد إذا صار مقابلا بجلال اللّه وعزته صار عين الذنب، فوجب الاستغفار منه وثالثها : للتسبيح والحمد إشارة إلى التعظيم لأمر اللّه، والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق [اللّه ]، والأول كالصلاة، والثاني كالزكاة، وكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة، فكذا هاهنا.
المسألة السابعة : الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه الإعلان بالتسبيح والاستغفار، وذلك من وجوه أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بإبلاغ السورة / إلى كل الأمة حتى يبقى نقل القرآن متواترا، وحتى نعلم أنه أحسن القيام بتبليغ الوحي، فوجب عليه الإتيان بالتسبيح والاستغفار على وجه الإظهار ليحصل هذا الغرض وثانيها : أنه من جملة المقاصد أن يصير الرسول قدوة للأمة حتى يفعلوا عند النعمة والمحنة، ما فعله الرسول من تجديد الشكر والحمد عند تجديد النعمة وثالثها : أن الأغلب في الشاهد أن يأتي بالحمد في ابتداء الأمر، فأمر اللّه رسوله بالحمد والاستغفار دائما، وفي كل حين وأوان ليقع الفرق بينه وبين غيره، ثم قال : واستغفره حين نعيت نفسه إليه لتفعل الأمة عند اقتراب آجالهم مثل ذلك.
المسألة الثامنة : في الآية سؤالات أحدها : وهو أنه قال : إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وثانيها : هلا قال : غفارا كما قاله في سورة نوح «١» وثالثها : أنه قال : نَصْرُ اللَّهِ وقال : فِي دِينِ اللَّهِ فلم لم يقل : بحمد اللّه بل قال : بِحَمْدِ رَبِّكَ والجواب : عن الأول من وجوه أحدها : أن هذا أبلغ كأنه يقول : ألست أثنيت عليكم بأنكم خير أمة أخرجت للناس ثم من كان دونكم كنت أقبل توبتهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة، وفلق البحر ونتق الجبل، ونزول المن والسلوى عصوا ربهم وأتوا بالقبائح، فلما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلا للتوبة ممن دونكم أفلا أقبلها منكم وثانيها : منذ كثير كنت شرعت في قبول توبة العصاة والشروع ملزم على قبول النعمان فكيف في كرم الرحمن وثالثها : كنت توابا قبل أن آمركم بالاستغفار أفلا أقبل وقد أمرتكم بالاستغفار ورابعها : كأنه إشارة إلى تخفيف جنايتهم أي لستم بأول من جنى وتاب بل هو حرفتي، والجناية مصيبة للجاني والمصيبة إذا عمدت خفت وخامسها : كأنه نظير ما يقال :

(١) في الآية العاشرة وهي قوله : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً


الصفحة التالية
Icon