مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٦٨
وهي حال كونها خالية من جميع العلوم البديهية والكسبية، وذلك لأن النفس في تلك المرتبة تحتاج إلى مرب يربيها ويزينها بتلك المعارف البديهية، ثم في المرتبة الثانية وهي عند حصول هذه العلوم البديهية يحصل لها ملكة من الانتقال منها إلى استعلام العلوم الفكرية وهو المراد من قوله : مَلِكِ النَّاسِ ثم في المرتبة الثالثة وهي عند خروج تلك العلوم الفكرية من القوة إلى الفعل يحصل الكمال التام للنفس وهو المراد من قوله : إِلهِ النَّاسِ فكأن الحق سبحانه يسمي نفسه بحسب كل مرتبة من مراتب النفس الإنسانية بما يليق بتلك المرتبة، ثم قال : مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ والمراد منه القوة الوهمية، والسبب في إطلاق اسم الخناس على الوهم أن العقل والوهم، قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمات، ثم إذا آل الأمر إلى النتيجة فالعقل يساعد على النتيجة والوهم يخنس، ويرجع ويمتنع عن تسليم النتيجة فلهذا السبب يسمى الوهم بالخناس ثم بين سبحانه أن ضرر هذا الخناس عظيم على العقل، وأنه قلما ينفك أحد عنه فكأنه سبحانه بين في هذه السورة مراتب الأرواح البشرية ونبه على عدوها ونبه على ما به يقع الامتياز بين العقل وبين الوهم، وهناك آخر درجات مراتب النفس الإنسانية، فلا جرم وقع ختم الكتاب الكريم والفرقان العظيم عليه.
الفصل الثاني : ذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها أحدها :
روي أن جبريل عليه السلام أتاه وقال :
إن عفريتا من الجن يكيدك، فقال : إذا أويت إلى فراشك قل : أعوذ برب السورتين
وثانيها : أن اللّه تعالى أنزلهما عليه ليكونا رقية من العين، وعن سعيد بن المسيب أن قريشا قالوا : تعالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا، ثم أتوه وقالوا ما أشد عضك وأقوى ظهرك وأنضر وجهك، فأنزل اللّه تعالى المعوذتين،
وثالثها : وهو
قول جمهور المفسرين : أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي صلى اللّه عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة وفي وتر دسه في بئر يقال لها ذروان فمرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان لذلك، وأخبره جبريل بموضع السحر فأرسل عليا عليه السلام وطلحة وجاءا به، وقال جبريل للنبي : حل عقدة، واقرأ آية ففعل وكان كلما قرأ آية انحلت عقدة فكان يجد بعض الخفة والراحة.
واعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم، قال القاضي : هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها، واللّه تعالى يقول : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة : ٦٧] وقال : وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه : ٦٩] ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى الضرر لجميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكل ذلك باطل، ولأن الكفار كانوا يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك / الدعوة، ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب، ومعلوم أن ذلك غير جائز، قال الأصحاب : هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل، والوجوه المذكورة قد سبق الكلام عليها في سورة البقرة أما قوله : الكفار كانوا يعيبون الرسول عليه السلام بأنه مسحور، فلو وقع ذلك لكان الكفار صادقين في ذلك القول فجوابه : أن الكفار كانوا يريدون بكونه مسحورا أنه مجنون أزيل عقله بواسطة السحر، فلذلك ترك دينهم، فأما أن يكون مسحورا بألم يجده في بدنه فذلك مما لا ينكره أحد، وبالجملة فالله تعالى ما كان يسلط عليه لا شيطانا ولا إنسيا ولا جنيا يؤذيه في دينه وشرعه ونبوته، فأما في الإضرار ببدنه فلا يبعد، وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة ولنرجع إلى التفسير.