مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٧٧
غيره، ثم إذا عرفه العبد كذلك عرف أنه في الجلالة والكبرياء فوق وصف الواصفين وأنه هو الذي ولهت العقول في عزته وعظمته، فحينئذ يعرفه إلها.
المسألة الرابعة : السبب في تكرير لفظ الناس أنه إنما تكررت هذه الصفات، لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار، ولأن هذا التكرير يقتضي مزيد شرف الناس، لأنه سبحانه كأنه عرف ذاته بكونه ربا للناس، ملكا للناس، إلها للناس. ولولا أن الناس أشر مخلوقاته وإلا لما ختم كتابه بتعريف ذاته بكونه ربا وملكا وإلها لهم.
المسألة الخامسة : لا يجوز هاهنا مالك الناس ويجوز : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ في سورة الفاتحة، والفرق أن قوله : بِرَبِّ النَّاسِ أفاد كونه مالكا لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقيبه هذا الملك ليفيد أنه مالك ومع كونه مالكا فهو ملك، فإن قيل : أليس قال في سورة الفاتحة : رَبِّ الْعالَمِينَ ثم قال : مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فيلزم وقوع التكرار هناك؟ قلنا اللفظ دل على أنه رب العالمين، وهي الأشياء الموجودة في الحال، وعلى أنه مالك ليوم الدين أي قادر عليه فهناك الرب مضاف إلى شيء والمالك إلى شيء آخر فلم يلزم التكرير، وأما هاهنا لو ذكر المالك لكان الرب والمالك مضافين إلى شيء واحد، فيلزم منه التكرير فظهر الفرق، وأيضا فجواز القراءات يتبع النزول لا القياس، وقد قرئ مالك لكن في الشواذ.
[سورة الناس (١١٤) : آية ٤]
مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤)
قوله تعالى : مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الوسواس اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال والمراد به الشيطان سمي بالمصدر، كأنه وسوسة في نفسه لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه، نظيره قوله : إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود : ٤٦] والمراد ذو الوسواس وتحقيق الكلام في الوسوسة قد تقدم في قوله : فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ [الأعراف : ٢٠] وأما الخناس فهو الذي عادته أن يخنس منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والنفاثات، عن سعيد بن جبير إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، فإذا غفل وسوس إليه.
[سورة الناس (١١٤) : آية ٥]
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥)
قوله تعالى : الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ.
اعلم أن قوله : الَّذِي يُوَسْوِسُ يجوز في محله الحركات الثلاث فالجر على الصفة والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس ويبتدئ الذي يوسوس، على أحد هذين الوجهين.
[سورة الناس (١١٤) : آية ٦]
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)
أما قوله تعالى : مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ففيه وجوه :
أحدها : كأنه يقول الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال : شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام : ١١٢] وكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى فشيطان الإنس يكون كذلك، وذلك لأنه يرى نفسه كالناصح المشفق، فإن زجره السامع يخنس، ويترك الوسوسة، وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه وثانيها : قال قوم قوله : مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قسمان مندرجان تحت قوله في : صُدُورِ النَّاسِ كأن القدر