مفاتيح الغيب، ج ٧، ص : ١٥٨
فالجواب : أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين، فقللوا أولًا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فلما تلاقوا كثرهم اللّه في أعينهم حتى صاروا مغلوبين، ثم إن تقليلهم في أول الأمر، وتكثيرهم في آخر الأمر، أبلغ في القدرة وإظهار الآية.
والاحتمال الثالث : أن الرائين هم المسلمون، والمرئيين هم المشركون، فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين ستمائة وأزيد، والسبب فيه أن اللّه تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال اللّه تعالى : فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال : ٦٦].
فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأي العين، وكانوا ثلاثة أمثالهم؟.
الجواب : أن اللّه تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم، وذلك لأنه تعالى قال : فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم، وإزالة للخوف عن صدورهم.
والاحتمال الرابع : أن الرائين هم المسلمون، وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد، لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين، والآية تنافي ذلك، وفي الآية احتمال خامس، وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود، فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة.
فإن قيل : كيف رأوهم مثليهم فقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقد سبق الجواب عنه.
بقي من مباحث هذا الموضع أمران :
البحث الأول : أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً، والاحتمال / الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئياً أما الأول : فهو محال عقلًا، لأن المعدوم لا يرى، فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي، وأما الثاني : فهو جائز عند أصحابنا، لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزاً لا واجباً، وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات، فلم يبعد أن يقال : إنه حصل ذلك المعجز، وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد، فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه أحدها : أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام، فلا جرم يرى البعض دون البعض وثانيها : لعلّه يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعاً عن إدراك البعض وثالثها : يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعاً عن إدراك ثلث العسكر، وكل ذلك محتمل.
البحث الثاني : اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون، وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل : إن كون المشرك رائياً أولى، ويدل عليه وجوه الأول : أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول، فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلًا، وأبعدهما مفعولًا أولى من العكس، وأقرب المذكورين هو قوله وَأُخْرى كافِرَةٌ والثاني : أن مقدمة الآية وهو قوله قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطاباً مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم، فهذه القراءة


الصفحة التالية
Icon