مفاتيح الغيب، ج ٧، ص : ١٦٠
إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمران : ١٥] ثم بيّن طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية.
المسألة الثانية : اختلفوا في أن قوله زُيِّنَ لِلنَّاسِ من الذي زين ذلك؟ أما أصحابنا فقولهم / فيه ظاهر، وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو اللّه تعالى وأيضاً قالوا : لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان، فإن كان ذلك شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان، وإن كان من اللّه تعالى، وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك، وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [القصص : ٦٣] يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا، وهذا الكلام ظاهر جداً.
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال :
لقول الأول : حكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زين لهم، وكان يحلف على ذلك باللّه، واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها : أنه تعالى أطلق حب الشهوات، فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها : أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه، ومنتهى مقصوده، لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها : قوله تعالى :
ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ولا شك أن اللّه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزيناً له ورابعها : قوله بعد هذه الآية قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمران : ١٥] والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه، وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه.
والقول الثاني : قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو اللّه واحتجوا عليه بوجوه أحدها : أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده، وإباحتها للعبيد تزيين لها، فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى، وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من اللذة، ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها وثانيها : أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة، واللّه تعالى قد ندب إليها، فكان مزيناً لها، وإنما قلنا : إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول : أن يتصدق بها والثاني : أن يتقوى بها على طاعة اللّه تعالى والثالث : أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق اللّه تعالى وإعانته صار ذلك سببا لاشتغال العبد بالشكر العظيم، ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعراً هذا معناه والرابع : أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثواباً، فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس : قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة : ٢٩] وقال : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف : ٣٢] وقال : إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها [الكهف : ٧] وقال : خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف :
٣١] وقال / في سورة البقرة وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [البقرة : ٢٢] وقال كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [البقرة : ١٦٨] وكل ذلك يدل على أن التزيين من اللّه تعالى، ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد زُيِّنَ لِلنَّاسِ على تسمية الفاعل.


الصفحة التالية
Icon