مفاتيح الغيب، ج ٧، ص : ١٦١
والقول الثالث : وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل، وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من اللّه تعالى، وكل ما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي، وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم، وكان من حقه أن يذكره ويبيّن أن التزيين فيه من اللّه تعالى، أو من الشيطان.
المسألة الثالثة : قوله حُبُّ الشَّهَواتِ فيه أبحاث ثلاثة :
البحث الأول : أن الشهوات هاهنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال، كما يقال للمقدور قدرة، وللمرجو رجاء وللمعلوم علم، وهذه استعارة مشهورة في اللغة، يقال : هذه شهوة فلان، أي مشتهاه، قال صاحب «الكشاف» : وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها والثانية : أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية، فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها.
البحث الثاني : قال المتكلمون : دلّت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه، والشهوة من فعل اللّه تعالى، والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات.
البحث الثالث : قال الحكماء : الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب، وأما من أحب شيئاً وأحب ان يحبه فذاك هو كمال المحبة، فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة، كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ [ص : ٣٢] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير، وإن كان ذلك في جانب الشر، فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها : أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها : أنه يحب شهوته لها وثالثها : أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة، ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة، ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من اللّه تعالى، ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس، وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس، والعقل أيضاً يدل عليه، وهو أن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب / ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان : جسماني وروحاني، والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر، وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة، ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية، فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة، وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر، ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة، فلهذا السبب عم اللّه هذا الحكم فقال : زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ.
وأما قوله تعالى : مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ ففيه بحثان :


الصفحة التالية
Icon