مفاتيح الغيب، ج ٩، ص : ٤٨٠
واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات، وذلك لأن / حمزة أحد القراء السبعة، والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة، والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت، وأيضا فلهذه القراءة وجهان : أحدهما : أنها على تقدير تكرير الجار، كأنه قيل تساءلون به وبالأرحام. وثانيها :
أنه ورد ذلك في الشعر وأنشد سيبويه في ذلك :
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
وأنشد أيضا :
نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف
والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن. واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى
بقوله صلى اللّه عليه وسلم :«لا تحلفوا بآبائكم»
فإذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم اللّه اقتضى ذلك جواز الحلف بالأرحام، ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون : أسألك باللّه والرحم، وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل، وأيضاً فالحديث نهى عن الحلف بالآباء فقط، وهاهنا ليس كذلك، بل هو حلف باللّه أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم، فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث، فهذا جملة الكلام في قراءة قوله : وَالْأَرْحامَ بالجر. أما قراءته بالنصب ففيه وجهان : الأول : وهو اختيار أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والثاني : وهو قول أكثر المفسرين : أن التقدير : واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج، وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله : اللَّهَ أي : اتقوا اللّه واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها قال الواحدي رحمه اللّه : ويجوز أيضاً أن يكون منصوبا بالإغراء، أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك : الأسد الأسد، وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم، ويدل على وجوب صلتها. وأما القراءة بالرفع فقال صاحب «الكشاف» : الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل : والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى، أو والأرحام مما يتساءل به.
المسألة الثالثة : أنه تعالى قال أولا : اتَّقُوا رَبَّكُمُ ثم قال بعده : وَاتَّقُوا اللَّهَ وفي هذا التكرير وجوه :
الأول : تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل : اعجل اعجل فيكون أبلغ من قولك : اعجل / الثاني : أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الانعام بالخلق وغيره، وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض. الثالث : قال أولا : اتَّقُوا رَبَّكُمُ وقال ثانيا : وَاتَّقُوا اللَّهَ والرب لفظ يدل على التربية والإحسان، والإله لفظ يدل على القهر والهيبة، فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب، ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال : يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة : ١٦] وقال : وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء : ٩٠]


الصفحة التالية
Icon