مفاتيح الغيب، ج ٩، ص : ٤٩٠
الوجه الثالث : نقل عن الشافعي رضي اللّه عنه أنه قال : ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا معناه : ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها : أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية : أن معناه : أن لا تميلوا ولا تجوروا، وثانيها : أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل : ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما، فأما تفسير تَعُولُوا بتعيلوا فانه خطأ في اللغة، وثالثها : أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال. بمنزلة النساء، ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين، فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال. وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا، وهو أنه تعالى قال في أول الآية : فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ولم يقل أن تفتقروا، فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط، ولا يكون جوابه إلا بضد العدل، وذلك هو الجور لا كثرة العيال. وأنا أقول :
أما السؤال الأول : فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة اللّه عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية : أن لا تجوروا ولا تميلوا، ولكنه ذكر فيه وجها آخر، وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها، ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام اللّه مردودة باطلة، ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف، وأيضا : فمن الذي / أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين، وكيف لا نقول ذلك، ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ : ذلك أدنى أن لا تعيلوا، وإذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة، فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى، فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن.
وأما السؤال الثاني : فنقول : انك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد، لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والأعلام، وشدة بلادتك، ما عرفت ان هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد، وبيان فساده من وجوه : الأول : أنه يقال : عالت المسألة إذا زادت سهامها وكثرة، وهذا المعنى قريب من الميل لأنه إذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الارادة وإذا كان كذلك كان معنى الآية : ذلك أدنى أن لا تكثروا، وإذا لم تكثروا لم يقع الإنسان في الجور والظلم لان مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة، وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير إلى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور.
الوجه الثاني : ان الإنسان إذا قال : فلان طويل النجاد كثير الرماد، فإذا قيل له ما معناه؟ حسن أن يقال :
معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة، وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة، بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى. وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض، وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو الإشارة إلى الشيء بذكر لوازمه، فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور، والشافعي رضي اللّه عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور، لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور، فجعل هذا تفسيراً له لا على سبيل المطابقة بل على سبيل الكناية والاستلزام، وهذه طريقة مشهورة في كتاب اللّه، والشافعي لما كان محيطاً بوجوه أساليب الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام، فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيداً عن أساليب كلام العرب، لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه.
الوجه الثالث : ما ذكره صاحب «الكشاف» وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك : عال الرجل عياله


الصفحة التالية
Icon