ج١ص١٥٩
معجز لا يقال حينئذ ينبغي الاكتفاء بالكلمات عن الحروف، لأنّ التركيب من الكلمات يستلزم التركيب من الحروف بلا عكس لأنا نقول هو كما ذكرت إلا أنه لا يحصل بهذه الإيقاظ لأنه لو سردت كلماته موضوعة على هذا النمط توجه الذهب إلى تحصيل معناها وطلب ارتباطها لا إلى ما ذكر من الإشارة فتدبر. قوله :( وتنبيهاً على أن المتلوّ عليهم إلخ ) هذا وما عطف هو عليه منصوب على أنه مفعول له، فإن قلت دلالة اللفظ كغيره إمّا وضعية أو عقلية أو طبيعية، والمراد بالوضعية ما للوضع مدخل فيه، فيشمل الدلالات الثلاث والمجاز والكناية، وهذه الألفاظ موضوعة للحروف المقطعة، فكيف تدل على الإيقاظ، وعلى ما يتيقظ له من الإعجاز، ولا يظهر في طريق من طرق الدلالة المذكورة. قلت : هو مما يحتاج للتنبيه عليه والإيقاظ ولم يتعرّض له أحد من أرباب الحواشي والشروح ( والذي ظهر لي ) بالتأمّل الصادق أنه من الدلالة العقلية، وهي قد تدل على أمور متعددة كصوت غناء من وراء جدار يدل على أن خلفه ناساً في لهو ولعب، واجتماع لما يسرّهم وهنا لما صذر الكلام بهذه الحروف، وليس المراد إفادة مسماها والمتكلم بليغ يصون كلامه عن العبث دل عقلاً على أنّ المراد به الإشارة إلى أنّ ما بعده كلام مركب، ونحن إذا سمعنا المعلم يهجي طفلأ علمنا منه أنه سيقرئه والتنبيه على هذا بخصوصه مع أنه كلام مركب منها لا بد له من وجه، فإذا أصاخ له اللبيب تفطن لما ذكر ولله در العلامة خطيب المفسرين إذ أشار لما ذكر بقوله كالإيقاظ وقرع العصا، فجعله كقرع العصا إيماء إلى أنّ دلالته عقلية صرفة موكولة لفطنة السامع إذ دلالة قرع العصا لذي الحلم المضروب به المثل في قوله :
إن العصا قرعت لذي الحلم
لكونها على خلاف المعتاد تدل على خطئه كما نبه قرع الأسماع هنا على خطا هؤلاء،
وتال في الكبير : بيانه أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحداهم بالقرآن فلما ذكر هذه الحروف دتت قرينة الحال على أنّ مراده من ذكرها أن يقول لهم هذا القرآن إنما نزل بهذه الحروف التي أنتم قادرون عليها فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله اه. قوله :
( عن آخرهم ) هذه عبارة مشهورة مسموعة من العرب قديماً أي عبارة عن الاستيعاب والشمول. وقال العلامة هو أبلغ من جميعهم لأن عن للمجاوزة، فالمراد عجزوا عجزاً متجاوزاً عن آخرهم وإذا تجاوز العجز عن آخرهم شملهم كلهم أوّلاً وتجاوز عنهم ثانيا، فهو أبلغ من عجزوا جميعا، وقيل عليه بل المعنى عجزاً صادراً عن آخرهم لا متجاوزاً عنه، لأنّ معنى تجاوز عنه عفا عنه، وغفروا ما بمعنى التعدّي فالمجاوزة فيه متعدّية بنفسها، ودفع بتضمين معنى التباعد بمعونة المقام إذ لا محل للعفو هنا مع أنه تعدى بكلمة عن أيضا في كلام من يوثق به، وقيل المعنى حينئذ عجزاً صادراً عن آخرهم إلى أوّلهم، وفيه أن مقابل كلمة إلى من الابتدائية لا عن، فإن قيل هذا تطويل بغير فائدة، إذ قدر التجاوز وضمنه معنى التباعد فهلا قدر التباعد ابتداء، فإنه يتعدّى بعن في كلام العرب كما مرّ في قوله :
تباعد عني فطحل إذ دعوته
قيل بل فيه فائدة، وهي أنّ التباعد عن الآخر هنا بطريق المجاوزة لا بطريق عدم الوصول
إلى الآخر أو المحاذاة، فلو لم يقدّر كذلك توهم هذا، وإن كان المقام قد يأباه، وقيل إنه غير وارد لأن مراد ذلك القائل بيان معنى عن واظهار وجه تعلقه بالفعل، ونظيره قول ابن الحاجب في معنى جلست عن يمينه متراخيا عنه، كأنه متجاوز عن موضعه إلى الموضع الذي بحيال يمينه، وله نظائر ولا يخفى عليك أنه إذا تعلّقت عن بالفعل لا تفيد هذا المعنى الذي ادعاه هذا القائل لأنّ معنى العجز عن الآخر أنهم لا يقدرون على الآخر لا أنّ الآخر عجز وتجاوزه العجز، ولو كان مراده ذلك لقال متجاوزا الآخر، ولا يخفى ما فيه من الخلل، ثم أنهم لم يستندوا في التعدية المذكورة إلى نقل، وقول الشريف من يوثق به أراد به الرضى كما أشار إليه في حواشيه عليه ( وأنا أقول ) إنه وقع بهذا المعنى معذى بعن في قول أبي تمام :
فلا ملك فرد المواهب واللها ~ تجاوز لي عنه ولا رشأ فرد
قال التبريزي في شرحه : لا نفي لتجاوز الملك، والتقدير لا تجاوز لي عنه الملك الفرد،
ولا الرشأ أي متى ملكني لم يقدر على تنحيتي عنه ملك بذال ولا رشأ فرد اهـ فمثل أبي تمام إذا استعمله، وما يقول بمنزلة ما يرويه كما سيأتي


الصفحة التالية
Icon