ج١ص١٨٩
الوقوف على مراده فإنّ مراده بالمصدر المصدر الحقيقي أي القلق، وهو يتعدّى باللام يقال قلق له وان تعدى الشك بقي، وفيه إشارة إلى أنه مجاز في الأصل صار حقيقة في الاستعمال، وعوف اللغة وظاهر. ترادف الشك والريب إلا أنه قيل عليه أنه ليس كذلك لأنّ الريب شك مع تهمة، ولذا قال الإمام : الريب قريب من الشك وفيه زيادة كأنه ظن سيء وقال الراغب الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين، وطلب الإمارة مأخوذ من مري الضرع إذا مسحه للدّرّ، فكأنه يحصل مع الشك تردد في طلب ما يقتضي غلبة الظن، والريب أن يتوهم في الشيء أمر مّا ثم ينكشف عما توهم فيه، وقال الحوي : يقال الشك لما استوى فيه الاعتقادان، أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور، والريب لما لم يبلغ درجة اليقين، وان ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا لا ريب فيه للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلاً عن شك، وعلى هذا ينبني ما في كتب الأصول من الفرق بين الشك
والظن إلا أنّ المصنفين يفسرون بالأعمّ ونحوه كثيراً من غير مبالاة منهم ومثله تعاريف لفظية مبنية على التسامح. وقوله :( لأنه ) أي الشك إشارة للعلاقة والطمأنينة السكون ويقابلها القلق وهو الحركة يقال : اطمأنّ القلب إذا سكن، ولم يقلق والاسم الطمأنينة، وأطمأنّ بالموضع أقام به واتخذه وطنا وقال بعضهم : الأصل في اطمأنّ القلب إذا سكن، ولم يقلق والاسم الطمأنينة، واطمأنّ بالموضع أقام به واتخذه وطنا وقال بعضهم : الأصل في اطمأنّ الألف مثل احمارّ واسوادّ، فهمزوه فرارا من الساكنين وقيل الأصل همزة متقدمة على الميم، فقلب على غير القياس بدليل قولهم طأ من الرجل ظهره إذا حناه، والهمزة يجوز تسهيلها. قوله :( وفي الحديث دع ما يريبك الخ ( ١ ) ) استشهد به على أنّ الريب له معنى غير الشك، وهو القلق كما مرّ إذ لو اتحدا لكان قوله فإنّ الشك بمنزلة قولك فإنّ الأسد غضنفر، وهو من لغو الحديث وقد قالوا : إنّ هذا الحديث رواه الترمذيّ، والنسائيّ وحسناه، وصححه الحاكم هكذا : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإنّ الصدق طمأنينة والكذب ريبة ) ٢ ( والمعنى دع ذلك إلى ذلك أي استبدله به أو دع ذلك ذاهباً إلى غيره على التقدير أو التضمين. وقوله :( فإق إلخ ) معلل، وممهد لما تقدمه. قيل : والمعنى إذا وجدت نفسك ترتاب في الشيء فاتركه فإنّ نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق، وترتاب في الكذب، فارتيابك في الشيء ينبىء عن كونه باطلأ، فاحذره واطمئنانك إلى الشيء يشعر بكونه حقاً فاستمسك به، وهذا خاص بذوي النفوس القدسية الطاهرة من وسخ الطبائع، فظهر أنّ قوله : فإنّ الشك ريبة لا يستقيم رواية ودراية، وردّ بأنهما ممنوعان أمّا الدراية، فلأنّ الشيخين بيناه بما لا مزيد عليه، وأمّا الرواية فإنّ إحدى الروايتين لا تبطل الأخرى وكان عليه أن يبين الأخرى التي ادّعاها فإنّ مثله لا يقال بالتشهي، وقد صحح الحافظ ابن حجر ما في الكتاب بعينه وقال : إنه رواه الطبرانيّ، وروى البيهقي " فإن الشرّ ريبة والخير طمأنينة " ( ٣ ( فاستشهد به كما مرّ على أنّ الريبة غير الشك، والاً لم يفد الكلام وبمقابلتها للطمأنيثة علم أنها موضوعة للقلق، فانطبق الاستشهاد على تمام المدعى ويريبك في الحديث روي بضمّ الياء وفتحها والثاني هو المناسب هنا.
( بقي ) إنّ الظاهر أنه ليس معنى الحديث ما قاله وتبعه فيه الشرّاح بل معنا. كما قاله
المحدثون خذ ما تيقنت حله وحسنه، واترك ما شككت في حله وحسته، كما ورد في الحديث الصحيح " اتقوا الشبهات فإنّ من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " ( ١ ) ومما هو صريح في ذلك ما روي أنّ وابصة بن معبد رضي الله عنه قال له رسول الله صلى اللّه عليه وسلّم :" جئت تسال عن البرّ والإثم ". فقال : نعم فجمع أصابعه فضرب بها صدره وقال له :" استفت نفسك يا وابصة ثلاثاً، البرّ مات اطمأنت إليه النفس، واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك ) ( ٢ ) فلا وجه لما زعموه من اختصاصه بالأنفس القدسية فتدبر. قوله :( ومنه ريب الزمان ) أي مما نقل من القلق إلى ما هو سببه من الشدائد وفصله بقوله : ومنه والضمير للريب المتجوّز فيه مطلقاً، لأنه ليس بمعنى الشك وإنما شاركه فإنّ أصله القلق فسمي به ما هو سبب له كما قال الهذلي :
أمن المنون وريبه تتوجع
وقال الرازي : إنّ هذا قد يرجع إلى معنى الشك، لأنّ ما يخاف من الحوادث محتمل،
فهو كالمشكوك فيه وكذا ما يختلج بالقلب وفيه نظر، والنوائب جمع نائبة، وهي الحادثة من حوادث