ج١ص١٩٥
بالأدلة العقلية المثبتة لها وقد أجاب المصنف رحمه الله عما أورد على تخصيص الهدى بالمتقين بوجهين استصعب الناظرون فيه الفرق بينهما حتى قيل : إنّ هذا الجواب الثاني هو الأوّل بعينه لأنّ معنى صقل العقل صونه عن طوارق الثبه، وصد الآراء الفاسدة، وتجريده عن انتقاش الصور الباطلة الشاغلة له عن ارتسام الصور الحقة، وهو عين التقوى فلا يحسن عطفه عليه بأو، إلا أن يقال هذا بحسب التقوى في القوّة النظرية، والأوّل بحسبها في القوّة العقلية، فعطف بأو نظرا للقوّتين، وقريب منه ما قيل حاصل الأوّل اختصاصهم بهداه بسبب اختصاصهم بالعمل به، والثاني بحسب معرفة معانيه وإسراره لأنّ غير المتقي لا يصقل عقله باستعماله في تدبر آياته المفضي إلى المعرفة ( وقد أعملت بريد النظر هنا ) ووقفت على ما في الحواشي، فرأيته دائرا بين أمرين الخطأ في فهم كلام المصنف، كالذي ذكر آنفا والتدليس بالإجمال الغير المفيد مثل ما قيل : إن الفرق بين الوجهين أنّ محصل الأوّل إنّ دلالة الكتاب، وان عمت المتقي وغيره والمسلم والكافر إلا أنّ دلالته نزلت منزلة العدم بالنسبة لمن لم ينتفع بها، والثاني أنّ دلالته عامّة لكل ناظر وإنما يكون حجة بالنسبة للمسلم المصدق بوحدانية الباري وصفاته، وبالرسالة وحقوقها، وهذا إنما يكون لمن صقل عقله عما يمنعه عن الوصول للحق، واستعمله في التفكر فيه وفي دلائله، فلا يكون هدى إلا للمتقي عن الكفر وما يؤدّي إليه ( وإن أردت تحقيق هذا المقام ) فاعلم أنّ المصنف رحمه الله اقتدى بالإمام حيث قال القرآن كما هو هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ودلالة لهم على وجود الصانع وعلى دينه وعلى صدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم فهو أيضا دلالة للكافرين إلا أنه تعالى ذكر المتقين مدحا ليبين أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال :﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٥ ] مع عموم إنذاره ومن فسر الهداية بالدلالة الموصلة فالسؤال زائل عته لأنّ
إيصال القرآن ليس إلا للمتقين ثم قال كل ما يتوفف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدى فيه كمعرقة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوّة فليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء كتعريف الشرائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول وهذا أقوى دليل على أنّ المطلق لا يقتضي العموم، فإنه تعالى وصفه بكونه هدى من غير تقييد لفظاً مع استحالة أن يكون هدى في إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوّة فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم اهـ ومنه أخذ المصنف رحمه الله ما هنا برمّته، فمعنى الجواب الأوّل أنّ الهداية مطلق الدلالة، وهي لا تختص بالمتقين وإنما خصوا بالذكر، لأنهم أكمل الأفراد وأشرفهم إذ هم المنتفعون بالدلالة وثمرة الإيصال لا أنها مختصة بهم فهي هنا على الحقيقة وكذا التقوى حقيقة في المرتبة الثانية ومعنى الثاني أنّ المراد بهداية " القرآن أيضا دلالته حقيقة، والتقوى حقيقة بمعنى التبري عن الشرك في المرتبة الأولى، ودلالة القرآن أي كونه دليلاً على ما فيه لا يكون إلا بعد الإيمان بالله ورسله وبما جاؤا به عليهم الصلاة والسلام بناء على ما ذهب إليه الماتريدية وبعض الأشعرية من أنّ ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري وعلمه وقدرته، وكلامه وعلى التصديق بنبوّة النبيّ ﷺ بدلالة معجزاته، ولو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور كما قرّر في الأصلين، فدّكر المتقين على المعنى الثاني لأنّ دلالة القرآن موقوفة على التقوى بهذا المعنى، لأنها إنما تثبت بالعقل على المشهور، والانتفاع المذكور في كلام المصنف أوّلاً الانتفاع بالهداية، وهو الاهتداء والانتفاع الثاني الانتفاع بالقرآن، وما فيه من الدلالة بعد وجود ما يتوقف عليه من التصديق، وهم توهموا الانتفاعين بمعنى فخبطوا خبط عشواء فلذا عطفه بأو وأخره لأنه خلاف المشهور عن الأشاعرة كما سيأتي، وبهذا ظهر أنّ ما قيل : إن المعنى أنه مرشد للمؤمنين منتفعون به في تحصيل سائر مراتب التقوى ليس له وجه فظهر وجه التخصيص وعلم فائدة التعلق كما مرّ، ويتبين بطلان ما قيل أنّ تقرير الثاني أنّ المراد به التثبت على ما كان حاصلاً من التقوى فيختصى بهم، ولا يتخطاهم وانّ الحاصل أنّ الهدى حقيقة على الجواب الأوّل، ومجاز على الجواب الثاني ولا حاصل له ولا طائل وقيل : إنّ الثاني فيه المتقي مجاز بمعنى العاقل المتدبر المشارف لها لأنها جلاء عقله عن صد الغفلة، والفساد فانطبع فيها الأدلة


الصفحة التالية
Icon