ج١ص٢٨٧
أفعال العباد القبيحة فلا يصح إسناده إلى الله تعالى وحال قلوب الكفار أيضا من هذا القبيل، فأيّ فائدة فيما ارتكبه بل هذا مما يكاد أن يكون غفلة عن مرمى أنظارهم، ومغزى أفكارهم. وقوله مقدر مجرور نعت سببيّ لقلوب، وختم الله
يصيغة المصدر نائب فاعله وجعل القلوب قلوب بهائم لا يجري عليها التكليف أسلم من المحذور الذي ادّعوه وإنما أخروه لأنّ إضافته إلى ضمير العقلاء يأباه إلا أن يدعي أنه من قبيل التجريد. قوله :( ونظيره سال به الوادي إلخ ) قد سمعت آنفاً تفصيل الجواب الثاني وعرفت أنّ التمثيل على فسمين تحقيقيّ وتخييليّ وأنهما محتملان هنا في النظم فعلى تقدير القلوب قلوب الاغتام أو الأنعام يكون محققاً وسال به لوادي مثاله لأنّ السيل وإهلاكه للناس أمر محقق، وعلى تقديرها قلوباً مقدّرة مفروضة يكون تخييلياً، ونظيره طارت به العتقاء، ففي كلامه لف ونشر، وسال به الوادي مثل يضرب لمن هلك كما قاله الزمخشريّ وقال الميداني يقال لمن وقع في أمر شديد والظاهر الأوّل وكذا طارت به العنقاء أيضاً مثل لما هلك، أو لمن طالت غيبته، والعنقاء بألف لتأنيث الممدودة في آخره اسم طائر سمي به لأنه في عنقه بياض كالطوق، ويقال عنقاء مغرب كمبعد لفظاً، ومعنى بالإضافة والتوصيف فيل إنه كان بأرض الرس جبل مرتفع قدر ميل فيه طيور كثيرة منها، العنقاء، وكانت عظيمة لخلق جدّا ولها وجه كوجه الإنسان وأجنحة كثيرة، وفيها من كل حيوان شبه وكانت تأكل الطير ثم جاعت فاختطفت صبياً ثم جارية، فشكوها لنبيّ كان ثمة قيل اسمه حنظلة بن صفوان، وقيل : خالد بن سنان فدعا عليها فهلكت وقطع الله نسلها، وقيل غير ذلك، وقيل : إنها لا حقيقة لها، ولم توجد أصلاً كالغول ولذا قال الصفيّ الحلي :
لما رأيت بني الزمان وما بهم ~ خل وفيّ للشدائد أصطفى
أيقنت أنّ المستحيل ثلاثة ~ الغول والعنقاء والخل الوفي
وما قيل : من أنها اسم ملك فضعيف جدّا.
( تنبيه ) أسقط المصنف رحمه الله قول الزمخشريّ نحو قلوب الأغتام إشارة إلى أنه مع ما
بعده وجه واحد لا وجه مستقل كما توهمه عبارته، ولأنّ الثاني أنسب بمدعاه كما بيناه لك، ولذا قيل القلوب المقدّر ختمها قلوب العقلاء، لأنه لا يجوز عند المعتزلة ختم الله عليها إلا يطريق الفرض بخلاف قلوب البهائم، والزمخشريّ جعل الأغتام ممن ختم على قلبه وهم الجهال أو من لا يفصح وهو خرم لمذهبه لأنه منع للطف عن العبد وهم لا يجوّزونه، وقد عرفت مما قرّرناه لك سقوطه، وإن كان إسقاطه أولى فعبارته أخصر وأظهر، وهذا مما ينبغي أن يتفطن له فإنّ المصنف قدّس سرّه لا يعدل عن شيء مما في الكشاف إلاً لنكتة، ونحن إن شاء الله لا نهمل شيئاً منها. قوله :( الثالث أنّ ذلك في الحقيقة فعل الشيطان إلخ ) يعني أنه إسناد مجازيّ من إسناد الفعل إلى السبب، كبنى الأمير المدينة والمسند مجاز فيه نحو أحيا الأرض الربيع وفاعله حقيقة الشيطان أو الكافر، وأورد عليه أنه يلزمه إسناد أفعال الكفرة
والشياطين وقبائح الشرور كلها إليه تعالى، فإن. قيل قد أسندتموها أنتم إليه حقيقة، فلم تنكرون إسنادها مجازا قيل نحن نسند خلقها إليه لا نفسها، ولو سلم فلا قبح في إيجادها عندنا بل في الاتصاف بها، كما مرّ وأنتم تدّعون قبحها، ولك أن تقول هو غير وارد رأساً فإنهم لم يقولوا بجوازه دهانما قالوا ما ورد منه موهما للقبح تؤوّله، كما اتفقوا على تاويل اليد ونحوها مما يوهم التجسيم وان لم يجز إطلاقنا الجارحة عليه تعالى نعم الاقدار والتمكين من القبيح قالوا إنه قبيح أيضا كما منع الشرع من بيع آلات القتال من أهل الحرب فما كان جوابهم فهو جوابنا، فإن قلت على ما ارتضيناه من الوجه السابق فيه مجاز في الإسناد أيضاً كهذا، فهو تكرار محض وهو الداعي لشراح الكشاف بأسرهم على جعله كناية إيمائية في الإثبات كما مرّ، وان كان تكلفاً لكنه كما قيل :
تدعو الضرورات في الأمور إلى سلوك ما لا يليق بالأدب
قلت : التجوّز في الإسناد على وجهين لأنه يكون بجعل الفعل كالفعل في معنى كالثبات والرسوخ السابقين، أو الفاعل كالفاعل للملابسة بينهما، وكل منهما مجاز حكمي إلا أنّ الأوّل فيه حشمة وأدب عندهم، فلذا قدم لا يقال لم يجيء الإسناد لتنزيل الفعل منزلة الفعل، ولم يتعرّض له أحد من أهل المعاني، وإنما جاء لتنزيل