ج١ص٢٩٠
الاستهزاء وهذا كما في قوله تعالى ﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ﴾ [ البينة : ١ ] لأنّ الكفار كانوا يقولون قبل مبعث النيّ صلّى الله عليه وسثم لا ننفك عما نحن فيه حتى يأتينا النبيّ الموعود به في التوراة والإنجيل، فلما جاءهم كفروا به، فحكى الله كلامهم ثمة على سبيل الوعيد والتهديد، ولو كان إخبارا لزم تخلفه والتشبيه في الحكاية فقط أو في الحكاية والتهكم كما في شروح الكشاف، وسيأتي معنى هذه الآية في محله. قوله :( إند ذلك في الآخرة إلخ ) وهذا ليس بقبيح لأنّ الآخرة ليست بدار تكليف، ولأنه حينئذ وقع جزاء لأعمالهم قي الدنيا، فليس بظلم بل عدل ويؤيده معنى قوله تعالى ﴿ وَنَحْشُرُهُمْ ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ] إلخ وكذا عطف قوله ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ لأنّ المراد به عذاب الآخرة، وفي الاستشهاد بالآية إشارة إلى أنّ الختم
مجاز عن إبطال المشاعر ففيه حينئذ تجوز أن في المادة لما ذكرنا وفي الهيئة لأنه مستقبل عبر عنه بالماضي لتحققه فهو كقولك قتل بمعنى يضرب، وقد أورد عليه ما أورد على الخامس أيضا ويدفع بالعناية فتأمل. قوله :( إنّ المراد بالختم وسم قلوبهم إلخ ) يعني ليس المراد به ما مرّ حتى يمتنع إسناده إلى الله بل هو سمة وعلامة في قلوبهم لتعرفهم الملائكة، فلا يدعون لهم ولا يخفى ضعفه، وان نقل عن الحسن البصري، واختاره الجبائيا ووضمع العلامة على القبيح ليجتنب غير قبيح بل حسن كما قيل عرفت الشرّ لا للشرّ، لكن لتوقيه والختم على هذا ليس بحقيقة بل استعارة تبعية، ويحتمل أن يكون مجازا مرسلاً كالمشفر بمعنى مطلق العلامة إذ الختم علامة مخصوصة. وقوله في الدر المصون : الختم لغة الوسم بطابع أو غيره إن أراد هذا فمسقم وإلا فلا وجه له. وقوله لغة لا يأباه والقول بأنّ الختم كناية عن الوسم لأنّ الشيء عند بلوغ آخره توضع عليه علامة يتميز بها بعيد وقد ردّ هذا بأنه غير مناسب لقوله ﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [ البقرة : ٧ ] أيضا وقوله وعلى هذا إلخ المنهاج كالمنهج الطريق أي جرى على هذا الأسلوب الخلاف بيننا وبين المعتزلة في كل ما ينسب إليه تعالى من هذا القبيل فنحن نقول هومسند إليه حقيقة ولا قبح فيه كما قيل :
من عرف الله أزال التهمه ~ وقال كل فعله لحكمه
وهم يتكلفون تأويله بما مرّ، ونحوه على ما هو معروف في الأصول، وأنما أشبع الكلام
فيه هنا لأنه أوّل آية وقع فيها ذلك. قوله :( وعلى سمعهم معطوف إلخ ) لما احتمل أن يكون على سمعهم وما عطف عليه خبراً مقدما لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع مع أنّ عطفه على قلوبهم أولى وأحسن معنى لتعينه في الآية التي ذكرها بينه، لأنّ القرآن يفسر بعضه بعضا، وأمّا تقديم القلب هنا وتأخيره هناك، فلأنّ المراد هنا بيان إصرارهم على الكفر وعدم قبول الإيمان الذي معناه، أو عمدة معناه التصديق وهو متعلق بالقلب فمقتضى هذا المقام تقديمه، والمقصود هناك بيان عدم قبول النصح والعظة، وهي مما يتعلق بالسمع فالمناسب ثمة تقديمه، وقيل في توجيهه أنّ الختم على السمع مقدمة لمنع القلب عن الفهم، فلذا قدم في النظم ولكون القلب، وأحواله مقصودة بالذات أخر في محل آخر وهو مع ما فيه من الإبهام غير مخل بالتمام، والوفاق وهو اتفاق القراء على الوقف على سمعهم يقتضي دخوله تحت الختم وهو ظاهر، وفي قول المصنف على قلوبهم إيهام لاحتمال عطف مجموع الجار والمجرور على مثله، كما هو الظاهر المتبادر وعطف المجرور فقط لأنّ الجار لتكرّره في حكم الساقط، ولذا لم يقل على قوله على قلوبهم مع أن صنيعه أخصر ويفهم مما ذكره أن قوله ﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾ [ البقرة : ٧ ] ابتداء لا تعلق له بما قبله، كما في الآية المذكورة، وقد صرّح به في
الكشاف وادعاء أنّ المصنف قصر في تركه من قصور النظر وكيف يتوهم هذا وقد صرّح به فيما سيأتي حيث جعله مبتدأ وقال إنه من عطف الجمل فلو ذكره هنا كان تكريراً بلا فائدة. قوله :( ولأنهما لما اشتركا ) هذا وجه آخر لاتصاله بما قبله متضمناً لسببه، ومعناه أنّ فعل القلب، وهو الإدراك لا يختص بجهة فمانعه يمنعه من جميع الجهات أيضا، وان اختص وقوعه بجانب إلاً أنه لا يتعين فجعل الختم عاماً، كمنعه وقارن السمع لأنه يدرك الأصوات من جميع الجهات : وكل قرين بالمقارن يقتدي
وأمّ إدراك البصر، فلا يكون إلاً بالمحاذاة والمقابلة فجعل المانع له ما يمنع منها أيضاً،
وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج، كما قال


الصفحة التالية
Icon