ج١ص٢٩٥
سرّه لا بدّ في النصب مطلقاً من تقدير فعل كجعل وأحدث على طريقة قوله :
علفتها تبناً وماء بارداً
وفيه مناقشات منها أنه قيل عليه : إنه يدفعه قول المصئف وغيره أنه على حذف الجار،
وأيضاً أنه يحتمل كما في البحر أن يكون غثاوة اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم، كقعدت جلوساً لأنّ معنى ختم غشي وستر، فكأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد ويكون قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة، وأيضاً ليس هو من قبيل، علفتها تبناً وماء باردا، سواء قدر فيه جعل أو انتصب على نزع الخافض لأنّ الغشاوة ليست مما يختم عليه كالقلب والسمع بل مما يختم به وبين المختوم عليه والمختوم به فرق ظاهر وقد صرّج به في الجاثية في قوله تعالى ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢٣ ] فجعل البصر مختوماً عليه بالغشاوة، فإن قلت هل في تغاير أسلوب ما هنا، وثمة نكتة غير التفنن، فإنه عكازة أعمى. قلت : لما ذكر هنا الكتب السماوية وهداية من اهتدى بها من المؤمنين، وهم السعداء أزلاً وأبدا، ثم عقبهم بأضدادهم الذين لم يفدهم الإنذار أصلاَ بين ذلك وعلله فأن مشاعرهم مجبولة على الغواية، وعدم قبول الحق وأفاد أنّ بصرهم وبصيرتهم مستمرّة ثابتة على عدم نظر الآيات البينات قبل الدعوة وبعدها، فلذا عدل فيها إلى الاسمية، أو ترك التصريح بالفعل، وثمة ذكر من عرف الحق، ثم عدل عنه كأهل الكتاب الذين لما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فناسب التصريح بتجدّد الغشاوة ولذا صدرت بقوله أفرأيت وقدم السمع فيها، وما قيل من أنه في الجاثية قصد بيان عدم قبول النصح وعدم المبالاة بالمواعظ الواصلة إليهم حينا بعد حين فناسب الفعل الدال على التجدّد لا يصلح وجهاً لمدعاه، فإن قوله تعالى ﴿ سَوَاء عَلَيْهِمْ ﴾ إلخ أدلّ على ما ذكره لصراحته في ٤، كما لا يخفى فهذا غفلة أو تغافل.
( أقول ) ما ذكره قدس سرّه من قوله علفتها تبنا وماء بارداً، كقوله متقلداً سيفاً ورمحا. وقوله : فزججن الحواجب والعيونا، وهو أصل من أصول العربية معناه أنه إذا عطف على معمول عامل معمول آخر لا يليق عطفه عليه بحسب الظاهر لمانع منه معنويّ أو صناقي، ففيه طرق أحدها التقدير، والثانية أن يضمن العامل المذكور معنى عامل عام لهما، أو يتجوز به عنه كأنلتها في الأؤل وحاملاَ، وحسن فيما بعده، وذكر الثعالبي رحمه الله أنه من المشاكلة، ووجه ما قاله من أنه يتعين كون ما هنا من هذا القبيل إنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً، وقد صرّح في غير هذه الآية بإخراح الإبصار عن حكم ألختم إلى التغشية المغايرة له بمعنييه، وهذا يأبى جعله مصدر الختم من معناه، كما في البحر ويقتضي عدم انتصابه بنزع الخافض لأنه إن لم يقدر له فعل اقتضى اشتراك القلوب والأسماع فيه، والاً كان فيه تعسف لأنه إذا ارتكب التقدير فليقدر فعل متعد بنفسه، وقد قيل عليه إنه يزيفه الوفاق على الوقف على سمعهم، وفوت نكتة تخصيص الختم بما عدا الأبصار، ويحتمل أن تكون غشاوة مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لثلا يتصرّف فيها بالرفع والإزالة اهـ وفيه نظر. قوله :( وقرىء بالضم والرفع إلخ ) أي قرىء في الشواذ بضم الغين، ورفعه وبفتح الغين المعجمة ونصمبه، وضم الغين وفتحها لغتان، وقرىء غشوة بكسر المعجمة مرفوعا، وبفتحها مرفوعا، وعنصوبا، والتخصيص في مثله نقليّ لا يسئل عن وجهه، وغشاوة بفتح المهملة والرفع وجوّز فيه الكسر والنصب من العشي بالفتح والقصر، وهو الرؤية بالنهار دون الليل ومنه الأعشى والمعنى أنهم يبصرون الأشياء ابصار غفلة لا تنظر غير الواضح لا إبصار عبرة، أو أنهم لا يرثون آيات الله في ظلمات كفرهم، ولو زالت تلك الظلمات أبصروها، وقال الراغب : العشاء كللتي تعرض في العين وعشى عن كذا عمي قال تعالى ﴿ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ] وعلى هذا معناه ظاهر. قوله :( وعيد وبيان لما يستحقونه إلخ ) الظاهر أنه معطوف على ما قبله فيكون بيانا لإصراوهم بأنّ مشاعرهم ختمت وأنّ الشقوة في الدارين عليهم حتمت، وهو غنيّ عن البيان، وليس استئنافاً ولا حالاً، وقيل إنه دفع لما يتوهم من عدم استحقاقهم العقاب على كفرهم لأنه بختم الله وتغشيته وفي استعمال اللام المفيدة للنفع وجعل فائدتهم ونفعهم العذاب العظيم تهكم بهم، ولا وجه له فإنّ اللام إنما تفيد النفع وتقع في مقابلة


الصفحة التالية
Icon