ج١ص٦٧
وقد توهم أنّ تأخير الرحيم للترقي، وأنه أبلغ من الرحمن لأنّ فعيلاَ للأمور الغريزية كشريف وكريم وفعلان للعارضة كسكران وغضبان، وأبطل بأنه من باب فعل بالضم لا من صيغة فعيل انتهى. وهذا بعينه كلام المدقق في الكشف وفيه بحث من وجوه : منها أنه لا يلزم أن يكون الأبلغ مشتملاً على معنى الأدنى بل يكفي أن يستلزم وجوده وجود الآخر بالطريق الأولى، وكذا عكسه في النفي بحيث يكون ذكر الآخر بعده لغواً لا يليق بكلام البليغ وبليغ الكلام، ألا تراك تقول فلان يهب المئات والألوف، ولو عكست قبح وقد اعتبر الزمخشريّ الترقي في قوله تعالى :﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [ النساء : ١٧٢ ] وفي قوله :
". وما مثله ممن يجاور حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره
مع أنّ الملائكة والبحر ليسا من جنس ما قبلهما كما في شرح الطيبي طيب الله ثراه.
ومنها أنّ قوله واذا لم يكن الأبلغ مشتملاَ على مفهوم الأدنى الخ تبع فيه صاحب التقريب حيث قال : إنّ ذلك فيما إذا كان الثاني فيه من جنس الأوّل وفيه زيادة عليه، والرحمن لجلائل النعم وأصولها، والرحيم لدقائقها وفروعها فلما لم يكن في الثاني زيادة على الأوّل كان كائنه من جنس آخر، وقد ردّه الكرماني في حواشيه بقوله إن أراد إن الجنسية تعتبر فيما يجري فيه الترقي، فلم قال : إنها مفقودة في هاتين الصيغتين مع اشتمالهما على معنى الرحمة وأحدهما أبلغ من الآخر وان أراد أنّ الصيغتين لا بد أن يتفقا في خصوص المعنى كجواد وفياض فغير
مسلم لما بيناه في البحث الأوّل فهو لا يوافق كلام العلامة، ولو اقتصر على ما بعده كان وجهاً وجيهاً لأنّ المراد أنهما ذكر الإفادة الشمول والعموم كما تقول الكبير والصغير يعرفا، ولو عكست صح وكالط المعنى بحاله، ومثله لا يلزم فيه الترتيب كما فصله في المثل السائر، ولولا خوف الإطالة لا وردناه برمتة ومنها أنّ قوله وأبطل الخ فيه ما مرّ فإنّ من النحاة وشرّاح الكشاف من ذهب إلى أنّ ( الرحيم والرحمن ) صفتان مشبهتان، فلا بدّ من لزوم فعلهما معاً فلا يصح الفرق والنقل لباب فعل بالضم، وذهب ابن ما لك وغيره إلى أنهما من مبالغة اسم الفاعل فلا كلزم اللزوم ولا يتأتى ما ذكره، فإن قلت كيف يدّعي اللزوم، وقد ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما بالإضافة إلى المفعول. قلت : من يدعيه يقول : إنه على التوسع، كما بينه النحاة في باب الظروف، ثم أنّ المدقق قال في الكشف : والتحقيق يقتضي أن يرد النظم على هذا الوجه، ولا يجوز غيره لأنّ الله اسم للذات الإلهية باعتبار أنّ الكل منه واليه وجوداً ورتبة وماهية، والرحمن اسم له باعتبار تخصيص كل ممكن بحصة من الرحمة، وهي الوجود الخاص، وما يتبعه من وجود كمالاته فلو لم يورد كذلك لم يكن على النهج الواقع المحقق ذوقا وشهودا عقلاَ ووجوداً، وأيضاً لما كان المقصود تعليم وجه التيمن بأسمائه الحسنى وتقديمها عند كل مسلم كان المناسب أن يبدأ من الأعلى فالأعلى إرشادا لمن يقتصر على واحد أن يقتصر على الأولى فالأولى وتقريراً في ذهن السامع لوجه التنزل أوّلاً فأوّلاً انتهى.
( قلت ) : يؤيده أنه ﷺ كان يكتب بسم الله الرحمن حتى نزلت سورة النمل فدقق النظر
ليتم الظفر، وما قيل على هذه القاعدة من أنها غير مطردة لقوله تعالى :﴿ رَسُولًا نَّبِيًّا ﴾ [ مريم : ٥١ ] ليس بوارد لما ذكر ثمة من أنهما بالمعنى اللغويّ أو كل أبلغ من وجه أو هو لرعاية الفاصلة. قوله :( لتقذّم رحمة الدنيا الخ ) أي تقدما زمانيا وجوديا فروعي ذلك في لفظه على كلا الاعتبارين لإضافته فيهما الدنيا، وقيل إنما هو إذا قصد المبالغة في الرحمن باعتبار المرحومين، والظاهر أنه باعتبار ما ذكره أوّلاً من قوله رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، وما قيل من أنّ الرحمن يتناول رحمة الدنيا على كل حال سواء اعتبر الكمية أو الكيفية بخلاف الرحيم ورحمة الدنيا مقدّمة في الوجود، فناسب تقديم ما يدل عليها ففيه أنّ الرحمن بالاعتبار الثاني لا تعلق له بالثاني فتقديمه أولى قوله :( ولآنه صار كالعلم الخ ) أي أشبه في اختصاصه به استعمالاً ومعنى إلا لتعنت في الكفر كقولهم لمسيلمة رحمن اليمامة، فناسب مقارنة العلم، وتقدمه على الوصف المحض، ولأنه بمنزلة الموصوف لمحض الوصف، واقتضاء السياق تقديمه باعتبار المعنى الوصفي، وبهذه المشابهة ضعف فيه ذلك، فلم يعلم به، وله مناسبة بالعلم والوصف، فناسب توسطه بينهما، وما قيل : على هذه الوجوه


الصفحة التالية
Icon