تفسير التستري، ص : ٥١
سأل ربه اللحوق بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق فقال له : لست هناك يا داود. فقال : ولم يا رب؟
فقال : لأن أولئك ابتليتهم فصبروا ولم يعرفوا الدنيا ولا عرفتهم وإنك عرفت الدنيا وعرفتك واتخذتها أهلا. فقال داود عليه السلام : فأرني من عبادك من لو ابتليته صبر. فقال اللّه عزّ وجلّ :
فإني مبتليك. فكان هو المبتدي في طلب البلاء للامتحان من اللّه تعالى، يعني وذلك لعلم اللّه السابق في غيب مستور تفرد بمعرفته، فأتاه إبليس في صورة حمامة، وكان من قصته وقصة أوريا ابن حنان ما كان، واللّه تعالى لم يعصمه من الهم والقصد والفعل، وعصم يوسف من الفعل ولم يعصمه من الهم والقصد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
قوله : فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [١٥٩] يعني بتعطف من اللّه لنت لهم وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا [١٥٩] باللسان غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [١٥٩] أي لتفرقوا من عندك فَاعْفُ عَنْهُمْ [١٥٩] أي تجاوز عن زللهم وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [١٥٩] هزيمتهم يوم أحد، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [١٥٩] أي لا تبعدهم بالعصيان عنك وأشملهم بفضلك فإنك بنا تعفو وبنا تستغفر وإيانا تطالع، فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [١٥٩] أي إذا أردت إمضاءه بعد المشورة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [١٥٩] أي ثق باللّه مع ذلك، وفوض إليه جميع أمورك، وافتقر إليه دون غيره فلم يخرج من الدنيا حتى كشف اللّه تعالى في قلبه العلوم التي كانت بينه وبين اللّه تعالى بلا واسطة فيها، لما كان يجب من النظر والتفكر اعتبارا بقدرة ربه، كي ينال المزيد من اللّه تعالى كما أمره بقوله تعالى : وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه : ١١٤] وقد حث على ذلك أمته بما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال :«شاوروا المتقين الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا ويؤثرون على أنفسهم في أموركم». وقال :«شاوروا العلماء الصالحين فإذا عزمتم إلى إمضاء ذلك فتوكلوا على اللّه». وقال : آخ من الإخوان أهل التقى، واجعل مشورتك من يخاف اللّه تعالى، ولا يكن كلامك بدلا، ولا تعادين أحدا أبدا حتى تعلم كيف صنعه بينه وبين اللّه تعالى، فإن كان حسن الصنيع فلا تعادينه، فإن اللّه تعالى لا يكله إليك، وإن كان سيئ الصنيع فلا تعادينه، فإن الصنيع السوء يكفيه. وقال : من استشير فأشار بغير رأيه سلبه اللّه تعالى رأيه يعني غشه فيما أشار به عليه، وقال : من شاور واتكل في إمضاء ما عزم ثم ندم فقد اتهم اللّه تعالى.
قوله : إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [١٦٠] قال : الخذلان هو غاية الترك، وأما الترك فإن صاحبه يذنب وهو مقر بذنبه، فإذا أذنب على أنه ديانة فهو الخذلان، وهو عقوبة اللّه تعالى صاحب الخذلان لأنه أقامه على ذنبه مع علمه به وتسويفه بالتوبة، ألا ترى أن إبليس لما أبى وأصر عليه بعد الإباء خذله اللّه بعلمه السابق