إنما هو مدّ له مع اللام كأملى له. فان قلت : فكيف جاز أن يوليهم اللَّه مددا في الطغيان وهو فعل الشياطين؟ ألا ترى إلى قوله تعالى :(وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ)؟ «١» قلت : إما أن يحمل على أنهم لما منعهم اللَّه ألطافه التي يمنحها المؤمنين، وخذلهم بسبب كفرهم وإصرارهم عليه، بقيت قلوبهم بتزايد الرين والظلمة فيها، تزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين فسمى ذلك التزايد مدداً. وأسند إلى اللَّه سبحانه لأنه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم. وإما على منع القسر والإلجاء وإما على أن يسند فعل الشيطان إلى اللَّه لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده.
فإن قلت : فما حملهم على تفسير المدّ في الطغيان بالإمهال وموضوع اللغة كما ذكرت لا يطاوع عليه؟ قلت : استجرّهم إلى ذلك خوف الإقدام على أن يسندوا إلى اللَّه ما أسندوا إلى الشياطين ولكن المعنى الصحيح ما طابقه اللفظ وشهد لصحته، وإلا كان منه بمنزلة الأروى من النعام.
ومن حق مفسر كتاب اللَّه الباهر وكلامه المعجز، أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدّى سليما من القادح، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل. ويعضد ما قلناه قول الحسن في تفسيره : في ضلالتهم يتمادون، وأن هؤلاء من أهل الطبع. والطغيان : الغلو في الكفر، ومجاوزة الحدّ في العتوّ.
وقرأ زيد بن على رضى اللَّه عنه :(في طغيانهم) بالكسر وهما لغتان، كلقيان ولقيان، وغنيان وغنيان. فان قلت : أى نكتة في إضافته اليهم؟ «٢» قلت : فيها أن الطغيان والتمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم واجترحته أيديهم، وأن اللَّه بريء منه ردّاً لاعتقاد الكفرة القائلين : لو شاء
(١). قال محمود رحمه اللَّه :«إن قلت : كيف جاز أن يوليهم اللَّه مدداً من الطغيان... الخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه : ما يمنعه أن يقره على ظاهره ويبقيه في نصابه إلا أنه توحيد محض وحق صرف، والقدرية من التوحيد على مراحل
(٢). قال محمود رحمه اللَّه :«فان قلت : ما النكتة في إضافة الطغيان إليهم... الخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه : كل فعل صدر من العبد اختياراً فله اعتباران : إن نظرت إلى وجوده وحدوثه وما هو عليه من وجوه التخصيص، فانسب ذلك إلى قدرة اللَّه وحده وإرادته لا شريك له. وإن نظرت إلى تميزه عن القسر الضروري فانسبه في هذه الجهة إلى العبد، وهي النسبة المعبر عنها شرعا بالكسب في أمثال قوله تعالى :(فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)، وهي المتحققة أيضاً إذا عرضت على ذهنك الحركتين الضرورية الرعشية مثلا والاختيارية، فإنك تميز بينهما لا محالة بتلك النسبة. فإذا تقرر تعدد الاعتبار فمدهم في الطغيان مخلوق للَّه تعالى فأضافه إليه. ومن حيث كونه واقعاً منهم على وجه الاختيار المعبر عنه بالكسب أضافه إليهم. ففرع على أصول السنة بحسن ثمار فروعك في الجنة، لا كما تفرع القدرية فإنهم يخبون ولكن على أنفسهم. ألهمنا اللَّه التحقيق وأيدنا بالتوفيق. [.....]