الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها هي مصر، أى أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وأصحاب العير، وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب. وقيل من أهل صنعاء، معناه : فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم ف قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه «١» وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي في الحزن والأسف الْحَكِيمُ الذي لم يبتلنى بذلك إلا لحكمة ومصلحة.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٤]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وأعرض عنهم كراهة لما جاءوا به يا أَسَفى أضاف الأسف وهو أشدّ الحزن والحسرة إلى نفسه، والألف بدل من ياء الإضافة، والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير متعمل فيملح ويبدع، ونحوه اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ، وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ، مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم «لم تعط أمة من الأمم - إنا للّه وإنا إليه راجعون - عند المصيبة إلا أمّة محمد صلى اللّه
(١). قال محمود :«إن هذا شيء أردتموه... الخ» قال أحمد : وهذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال، كأن قائلا يقول : هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمراً بلا مراء، وأما في هذه الوقعة الثانية فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانياً بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً كما قال لهم أولا، وإذا ورد السؤال على هذا التقرير فلا بد من زيد بسط في الجواب فنقول : كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين، وهم قمن بإتمامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها، وهي أخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده لا من دين غيره من الناس ولا من عادتهم، وإلى ذلك وقعت الاشارة بقوله تعالى ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ تنبيها من اللّه تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمدا ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعى عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة اليه لا حرج فيه، وخصوصا فيما يرجع إلى الوالد من الولد.
ويحتمل - واللّه أعلم - أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه، فان كان شرعهم مثل شرعنا في ذلك ففتواهم إذاً غير محررة، وهو إشعار بأنهم كانوا حراصا على ثبوت السرقة عليه، ويؤكد ذلك قولهم إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يؤكدون بذلك ثبوت السرقة عليه، واللّه أعلم. وقوله لهم بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضى ذلك مخالفا لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول، واللّه المستعان.