عليه وسلم «١». ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع. وإنما قال يا أسفى» فإن قلت : كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثراً؟ قلت : هو دليل على تمادى أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طريا.
وَلَمْ تُنْسِنِى أَوْفَى الْمُصِيبَاتِ بَعْدَهُ «٢»
ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر. قيل : قد عمى بصره. وقيل : كان يدرك إدراكا ضعيفاً. قرئ من الحزن.
ومن الحزن، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض، فكأنه حدث من الحزن. قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما، وما على وجه الأرض أكرم على اللّه من يعقوب. وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام : ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف «٣»؟ قال : وجد سبعين ثكلى. قال : فما كان له من الأجر؟ قال : أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه باللّه ساعة قط. فإن قلت : كيف جاز لنبي اللّه أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟
قلت : الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن، ولقد بكى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ولده

__
(١). أخرجه الثعلبي من حديث محمد بن سعيد الهادي عن إسحاق بن الربيع بن سفيان بن زياد المعصفرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بهذا مرفوعا وأخرجه الطبراني في الدعاء من وجه آخر عن سفيان بن زياد. ورواه عبد الرزاق من طريق الطبري عن الثوري عن سفيان عن زياد المعصفرى عن سعيد بن جبير أقول وكذا رواه البيهقي في الشعب من رواية أبى عامر عن الثوري قال : ورفعه بعض الضعفاء وليس بشيء.
(٢) تعزيت عن أوفى بغيلان بعده عزاء وجفن العين ملآن مترع
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكأ القرح بالقرح أوجع
لهشام بن عقبة العذرى، يرثى أخاه ذى الرمة، واسمه غيلان بن عقبة. ويرثى أوفى بن دلهم. وقيل : يرثى أخويه.
يقول : تعزيت أى تسليت عن أوفى بموت غيلان بعده، أى نابني ما يوجب النسيان الأول ولم أنسه، والحال أن جفن عينى ممتلئ بالدموع. أو المعنى : تكلفت التسلي فلم أقدر. ويقال : أترع الحوض إذا ملئ بالماء في المترع توكيد. ويجوز تشبيه الجفن بالحوض على طريق المكنية والاتراع تخييل، فلم تنسني أو في المصيبات التي أصابتنى بعده موت أخى غيلان، ولكن زادتنى حزنا على حزنى. والقرح : الجرح إذا اندمل ويبست جلبته. والنكاء :
كشط تلك الجلبة. ويروى : ولكن نكأ بتشديد النون. والنكأ : التي منها وزن الضرب، فشبه حال مصيبته الأولى التي طرأ عليها غيرها فزادها بحال ذلك الجرح على سبيل التمثيلية، أى : ولكن نكأ القرح أوجع به من الحالة الأولى. وأظهر محل المضمر لإظهار التوجع والتفجع. أو المعنى : ولكن نكأ القرح الأول بقرح غيره أوجع بالإنسان مما كان، فبالقرح متعلق بأوجع، أو بنكاء.
(٣). لم أجده مرفوعا، وأخرجه الطبري من رواية عيسى بن يزيد عن الحسن البصري أنه قيل له : ما بلغ... فذكره.


الصفحة التالية
Icon