عبدك ورسولك، وأنك إن تكلني إلى نفسي تقرّبنى من الشر وتباعدني من الخير، وأنى لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الرحمن عهد، فيدخلون الجنة، «١» وقيل : كلمة الشهادة. أو يكون من «عهد الأمير إلى فلان بكذا» إذا أمره به، أى لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها. وتعضده مواضع في التنزيل وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ إلى ٩١]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١)
قرئ إِدًّا بالكسر والفتح. قال ابن خالويه : الإدّ والأدّ : العجب. وقيل : العظيم المنكر. والإدّة : الشدّة. وأدنى الأمر وآدنى : أثقلنى وعظم علىّ إدّا تَكادُ قراءة الكسائي ونافع بالياء. وقرئ «ينفطرن» «٢» الانفطار من فطره إذا شقه. والتفطر، من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه. وقرأ ابن مسعود : ينصدعن، أى تهد هدّا، أو مهدودة، أو مفعول له، أى : لأنها تهدّ. فإن قلت : ما معنى انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟
ومن أين تؤثر هذه الكلمة في الجمادات؟ قلت : فيه وجهان، أحدهما : أن اللّه سبحانه يقول :
كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض «٣» والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا منى على من
(١). أخرجه الثعلبي قال : روى أبو وائل عن عبد اللّه بن مسعود - فذكره بتمامه، وروى ابن مردويه في تفسير الأحزاب من طريق عوف بن عبد اللّه عن رجل من بنى سليم عن عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه، قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «العهد أن تقول : اللهم فاطر السموات والأرض - الحديث أصغر مما ذكر» ورواه الحاكم من وجه آخر عن عون عن ابن ماجة عن الأسود عن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قال اللّه تعالى يقول يوم القيامة : من كان له عندي عهد فليقم، قال فقلنا : فعلمنا يا أبا عبد الرحمن قال : فاقرؤا :
اللهم فاطر السموات والأرض - فذكره مختصرا، وفي الباب عن أبى بكر رضى اللّه عنه، أخرجه الحكيم الترمذي في النوادر في السادس والسبعين بعد المائة.
(٢). قوله «و قرئ ينفطرن» يفيد أن القراءة المشهورة «يتفطرن» بالتاء. (ع)
(٣). قال محمود :«معناه : كدت أهدّ السموات وأفطر الأرض... الخ» قال أحمد : ويظهر لي وراءها معنى آخر واللّه أعلم، وذلك أن اللّه تعالى قد استعار لدلالتها على وجوده عز وجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له، أن جعلها تسبح بحمده. قال تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها : أن اللّه تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فالمعتقد نسبة الولد إلى اللّه تعالى قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه اللّه وتقديسه، فاستعير لابطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها، إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق «فسبحان من قسم عباده، فجعل العباد، تستلذ فتسبح بتسبيح داود، يكاد ينهد لمقاله من هو عن باب التوفيق مطرود مردود.