اذْكُرُوا ما أنعم اللّه به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الأحزاب، فأرسل اللّه عليهم ريح الصبا. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور «١» وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة وكانوا ألفا : بعث اللّه عليهم صبا باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم «٢» وسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت الأطناب، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وما جت الخيل بعضها في بعض، وقذف في قلوبهم الرعب، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدى : أما محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال، وحين سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضى اللّه عنه، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام «٣» واشتدّ الخوف، وظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر لا نقدر أن نذهب إلى الغائط. وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبنى كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة، حتى أنزل اللّه النصر «٤» تَعْمَلُونَ قرئ بالتاء والياء مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من قبل المشرق : بنو غطفان وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب : قريش تحزبوا وقالوا : سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمدا زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة وشخوصا.
وقيل : عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوّها لشدة الروع. الحنجرة : رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم. والحلقوم : مدخل الطعام والشراب، قالوا : إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد : ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثمة قيل للجبان : انتفخ سحره. ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا خطاب للذين آمنوا. ومنهم الثبت القلوب والأقدام،
(١). متفق عليه من حديث ابن عباس رضى اللّه عنهما.
(٢). قوله «فأخصرتهم» في الصحاح «الخصر» بالتحريك : البرد. وقد خصر الرجل : إذا آلمه البرد في أطرافه اه، فأخصرتهم : أوقعتهم في الخصر أى البرد. (ع)
(٣). قوله «فرفعوا في الآطام» أى الحصون، وهو جمع أطم كعنق. (ع)
(٤). أخرجه ابن إسحاق في المغازي. ومن طريقه الطبري عن زيد بن رومان عن عروة عن عبد اللّه بن أبى بكر ومحمد بن كعب وغيرهم من علمائنا، فذكر القصة بطولها وأتم مما هاهنا. وهو في السيرة لابن هشام من قول إسحاق. [.....]