كتاب اللّه، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم واعترض بقوله وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ ثم قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا أى من بعد أولئك المذكورين، يريد بالمصطفين من عباده : أهل الملة الحنيفية، فإن قلت : فكيف جعلت جَنَّاتُ عَدْنٍ بدلا من الفضل الكبير «١» الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب، نزل منزلة المسبب، كأنه هو الثواب، فأبدلت عنه جنات عدن، وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، وليملك الظالم لنفسه حذرا وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب اللّه، ولا يغترا بما رواه عمر رضى اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :«سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له «٢»» فإنّ شرط ذلك صحة التوبة «٣» لقوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وقوله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ولقد نطق القرآن بذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخدع. وقرئ سباق. ومعنى بِإِذْنِ اللَّهِ بتيسيره وتوفيقه فإن قلت : لم قدم الظالم؟ ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت : للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل. وقرئ : جنة عدن على الإفراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين. وجنات عدن :

__
(١). قال محمود :«يعنى بالمصطفين أمة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم قسمتهم الآية إلى ظالم لنفسه : هو المرجأ لأمر اللّه، وإلى مقتصد : وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وإلى سابق، ثم قال لزمخشرى : فان قلت :
كيف جعل الجنات بدلا من الفضل الكبير، وذلك في تتمة الآية في قوله وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها قلت : لأن الاشارة بالفضل إلى السبق بالخيرات وهو السبب في الجنات ونيل الثواب، فأقام السبب مقام المسبب، وفي اختصاص السابقين بذكر الجزاء دون الآخرين ما يوجب الحذر فليحذر المقتصد، وليملك الظالم لنفسه حذرا، وعليهما بالتوبة النصوح، ولا يغترا بما رواه عمر رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال :«سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له»
فان شرط ذلك صحة التوبة فلا يعلل نفسه بالخدع» قال أحمد : وقد صدرت هذه الآية بذكر المصطفين من عباد اللّه، ثم قسمتهم إلى الظالم والمقتصد والسابق ليلزم اندراج الظالم لنفسه من الموحدين في المصطفين، وإنه لمنهم، وأى نعمة أتم وأعظم من اصطفائه للتوحيد والعقائد السالمة من البدع، فما بال المصنف يطنب في التسوية بين الموحد المصطفى والكافر المجترئ، وقوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها الضمير فيه راجع إلى المصطفين عموما، والجنات جزاؤهم على توحيدهم جميعا، وإعرابها : جنات مبتدأ، ويدخلونها الخبر، وقوله يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ... إلى آخر الآية : خبر بعد خبر، وخبر على خبر، واللّه المستعان.
(٢). أخرجه البيهقي في الشعب من رواية ميمون بن سياه عن عمر رضى اللّه عنه مرفوعا. وهذا منقطع وأخرجه الثعلبي وابن مردويه من وجه آخر عن ميمون بن سياه عن أبى عثمان الهدى عن عمر. فيه الفضل بن عميرة : وهو ضعيف. ورواه سعيد بن منصور عن فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد اللّه الحرازى عمن سمع عمر فذكره موقوفا
(٣). قوله «فإن شرط ذلك صحة التوبة» هذا عند المعتزلة. أما أهل السنة فيجوزون الغفران بمجرد الفضل. (ع)


الصفحة التالية
Icon