تعالى تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ قرئ كَيْدُ ساحِرٍ بالرفع والنصب. فمن رفع فعلى أنّ ما موصولة. ومن نصب فعلى أنها كافة. وقرئ : كيد سحر، بمعنى : ذى سحر : أو ذوى سحر. أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه وبذاته. أو بين الكيد «١»، لأنه يكون سحرا وغير سحر، كما تبين المائة بدرهم. ونحوه : علم فقه، وعلم نحو. فإن قلت : لم وحد ساحر ولم يجمع؟ قلت : لأنّ القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية، لا إلى معنى العدد، فلو جمع، لخيل أنّ المقصود هو العدد.
ألا ترى إلى قوله وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أى هذا الجنس. فإن قلت : فلم نكر أوّلا وعرف ثانيا؟
قلت : إنما نكر من أجل تنكير المضاف، لا من أجل تنكيره في نفسه، كقول العجاج :
في سعى دنيا طالما قد مدّت «٢»
وفي حديث عمر رضى اللّه عنه «لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة»»
المراد تنكير الأمر، كأنه قيل : إن ما صنعوا كيد سحري. وفي سعى دنيوى. وأمر دنيوى وآخري حَيْثُ أَتى كقولهم :
حيث سير، وأية سلك، وأينما كان.
[سورة طه (٢٠) : آية ٧٠]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠)
سبحان اللّه ما أعجب أمرهم. قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ثم ألقوا رؤسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين! «٤» وروى أنهم لم يرفعوا رؤسهم
(١). قوله «أو بين الكيد» لعله بعده سقطا تقديره «بالسحر». (ع) [.....]
(٢) الحمد للّه الذي استقلت باذنه السماء واطمأنت
باذنه الأرض وما تعنت أوحى لها القرار فاستقرت
وشدها بالراسيات الثبت والجاعل الغيث غياث الأمت
والجامع الناس ليوم البعثت بعد الممات وهو محيى الموت
يوم ترى النفوس ما أعدت من نزل إذا الأمور غبت
في سعى دنيا طالما تعنت
استقلت : ارتفعت. واطمأنت : انخفضت. وفي الشعر التضمين. والتعنت : الاتعاب أو التأخر والتثاقل، من العنا وهو التعب. وأوحى لها : ألهمها. واثبت : جمع ثابت، والوقف على هاء التأنيث، كالأمت بالتاء قليل.
والموت : جمع مائت. والنزل : ما يعد للضيف، استعارة لما يقدمه الإنسان من الأعمال. وغبت : بلغت غبها وغايتها. وفي سعى : متعلق به، أو بتعنت بعده، أى : تعبت أو أتعبت. وضمن على المعنى الأول للنفوس، وعلى الثاني للدنيا، ونكرها لتنكير السعى دلالة على التقليل، أى : في سعي دنيوى قليل.
(٣). ذكره صاحب النهاية بغير إسناد. وفي الباب عن ابن مسعود. وسيأتى في أَلَمْ نَشْرَحْ أتم من هذا.
(٤). قال محمود :«سبحان من فرق بين الالقاءين إلقائهم حبالهم وعصيهم... الخ» قال أحمد : وفي تكرير لفظ الإلقاء والعدول عن مثل : فسجد السحرة، إيقاظ السامع لألطاف اللّه تعالى في نقله عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الايمان والسداد، وهذا الإيقاظ لا يحصل على الوجه إلى هذا القصد إلا بتكرير لفظ واحد على معنيين متناقضين، وهو يناسب ما قدمته آنفا في إيجاز الخطاب في قوله وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ، وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ فتأمله فان الحق حسن متناسب، واللّه الموفق.