يعنى : لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح، لكونه محالا، ولم يتأت إلا أن يصطفى من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم، كما يختص الرجل ولده ويقربه. وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم أولاده، جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال : لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات، فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء «١» على اللّه وملائكته، غالبين «٢» في الكفر، ثم قال سُبْحانَهُ فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء. ودلّ على ذلك بما ينافيه، وهو أنه واحد، فلا يجوز أن يكون له صاحبة، لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه ولا جنس له : وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد، وهو معنى قوله أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ. وقهار غلاب لكل شيء، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
ثم دلّ بخلق السماوات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر، وتسخير النيرين، وجريهما لأجل مسمى، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك، قهار لا يغالب. والتكوير : اللف واللىّ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها. وفيه أوجه، منها : أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشى مكانه فكأنما ألبسه والف عليه كما يلف اللباس على اللابس. ومنه قول ذى الرمة في وصف السراب :
تلوى الثّنايا بأحقيها حواشيه لىّ الملاء بأبواب التّفاريج «٣»

__
(١). قوله «متبالغين في الافتراء» لعله : مبالغين. (ع)
(٢). قوله «غالبين في الكفر» لعله : غالين. (ع)
(٣) وراكد الشمس أجاج نصب له قواضب القوم بالمهرية العوج
إذا تنازع حالا مجهل قذف أطراف مطره بالخز منسوج
تلوى الثنايا بحقويها حواشيه لي الملاء بأبواب التفاريج
كأنه والرهاة الموت يركضه أعراف أزهر تحت الريخ منتوج
لذي الرمة يصف السراب. وراكد الشمس : ما يتساقط منها على الأرض. والأجاج : صفة مبالغة، أى : كثير الأجيج، يقال : أجت النار أجيجا : اشتعلت، والحر : اشتد. وأج الظليم أجا : أسرع وله حفيف. وأج الأمر :
اختلط. والأج : طير أبيض سريع الطيران يشبه النعام. ويرى السراب عند شدة الحر أبيض كأنه يسير، فيجوز أنه من الأولين. ويجوز أنه منسوب للأخير، لأنه يشبهه، وللام للتوقيت، وللقواضب : السيوف النواطع.
والمهرية : الخيل المنسوبة لمهر بن حيدان أبى قبيلة من اليمن، خيلها أنجب الخيل. والعوج : جمع عوجاء نوع جيد منها أيضا. والحالان : ارتفاع الأرض وانخفاضها. والمجهل : الموضع الذي يجهله المسافر. والقذف - كسبب - :
الذي يقذف ما فيه فلا أحد فيه. والمطرد : السراب المستوى، شبه بالخز المنسوج في الاستواء والبياض. والثنايا :
العقبات. والحقو : الخصر والإزار، وشده عليه استعارة لجانب العقبة، وحواشي السراب : جوانبه. والملاء بالضم والمد : اسم جمع ملاءة وهي الجلباب. والتفراج : الباب الصغير والثوب من الديباج. والرهاة - جمع رهو - :
المكان المرتفع، ويطلق على المنخفض أيضا. وقيل : اسم موضع. والموت : القفر. والركض : ضرب الدابة بالرجل والضرب مطلقا، وهو هنا مجاز على طريق التصريحية. والأعراف : جمع عرف. وعرف الديك والفرس :
أعلى شعر العنق وأعرف البحر والسيل : إذا تراكم موجه وارتفع كالأعراف، والأزهر : السحاب الأبيض والماء الأبيض، وهو الأنسب بكونه تحت الريح، لأن ظاهر الأول يخالف قوله تعالى أَقَلَّتْ سَحاباً والمنتوج : الذي تنتجه الريح وتسوقه حتى يقطر، يقول : ورب راكد من الشمس، يعنى السراب شديد الحر أو السير، نصبت مستقبلا لوقته سيوف قومي مع الخيل الجياد إذا تجاذب المنخفض والمرتفع من الأرض القفرة أطراف الآل وهو السراب، وشبه إحاطة جوانبه وتراكمه في جوانب العقبة بلىّ الجلباب في أبواب التفاريج، وتلوى : يحتمل أنه جواب ذا وأنه صفة لمطرد وجوابها، دل عليه ما قبلها وأسند اللى للثنايا لأنها سبب الالتواء، ولى الملا : مفعول مطلق، وأعراف : خبر كأنه، والرهاة : جملة حالية، وفاعل يركض إما ضمير الآل، أو ضمير الرهاة، لأنهما كأنهما يتضاربان. وروى : تطرده، وفاعله ضمير الرهاة جزما، لأن الآل هو المطرود، وبيت الكشاف : يلوى الثنايا بأحقيها. والحقو : جمعه أحق، وأصل وزنه : أفعل.


الصفحة التالية
Icon