تقدير الانفصال، فتكون إضافتهما غير حقيقية، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش. وأما شديد العقاب فأمره مشكل، لأنه في تقدير : شديد عقابه لا ينفك من هذا التقدير، وقد جعله الزجاج بدلا. وفي كونه بدلا وحده بين الصفات نبوّ ظاهر. والوجه أن يقال : لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة، فقد آذنت بأنّ كلها أبدال غير أوصاف، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على مستفعلن، فهي محكوم عليها بأنها من بحر الرجز، فإن وقع فيها جزء واحد على متفاعلن كانت من الكامل «١» ولقائل أن يقول : هي صفات، وإنما حذف الألف واللام من شديد العقاب ليزاوج ما قبله وما بعده لفظا، فقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج، حتى قالوا : ما يعرف سحادليه من عنادليه، فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع، على أنّ الخليل قال في قولهم ما يحسن بالرجل مثلك أن يفعل ذلك، وما يحسن بالرجل خير منك أن يفعل أنه على نية الألف واللام كما كان الجماء الغفير على نية طرح الألف واللام ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف.
ويجوز أن يقال : قد تعمد تنكيره، وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريقة الإبدال. فإن قلت : ما بال الواو في قوله وَقابِلِ التَّوْبِ؟ قلت :
فيها نكتة جليلة، وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات. وأن يجعلها محاءة للذنوب، كأن لم يذنب، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول.
وروى أنّ عمر رضى اللّه عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له : تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه : اكتب، من عمر إلى فلان : سلام عليك، وأنا أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو : بسم اللّه الرحمن الرحيم : حم إلى قوله إليه المصير. وختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة. فلما أتته الصحيفة

__
(١). قال محمود :«فان قلت لما اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا والموصوف معرفة يقتضى أن يكون مثله معارف؟ وأجاب بأن غافر الذنب وقابل التوب معرفان، لأنهما صفتان لازمتان، وليستا لحدوث الفعل حتى يكونا حالا أو استقبالا، بل إضافتهما حقيقة. وأما شديد العقاب فلا شك في أن إضافته غير حقيقية، يريد :
لأنه من الصفات المشبهة، ولا تكون إضافتها محضة أبدا. عاد كلامه قال : وجعله الزجاج بدلا وحده، وانفراد البدل من بين الصفات فيه نبو ظاهر. والوجه أن يقال : إن جميعها أبدال غير أوصاف، لوقوع هذه النكرة التي لا يصح أن تكون صفة كما لو جاءت قصيدة تفاعيلها كلها على مستفعل، قضى عليها بأنها من بحر الرجز، فان وقع فيها جزء واحد على متفاعلن : كانت من الكامل»
قال أحمد : وهذا لأن دخول مستفعلن في الكامل يمكن، لأن متفاعلن يصير بالاضمار إلى مستفعلن، وليس وقوع متفاعلن في الرجز ممكنا، إذ لا يصبر إليه مستفعلن البتة، فما يفضى إلى الجمع بينهما فانه يتعين، وهذا كما يقضى الفقهاء بالخاص على العام لأنه الطريق في الجمع بين الدليلين.


الصفحة التالية
Icon