وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى تمويها «١» على قومه، وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير ما أنتم عليه، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام، بدليل قوله وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ والفساد في الأرض : التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش، ويهلك الناس قتلا وضياعا، كأنه قال : إنى أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه. أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه. وفي مصاحف أهل الحجاز وأن يظهر بالواو، ومعناه. إنى أخاف فساد دينكم ودنياكم معا. وقرئ : يظهر، من أظهر «٢»، والفساد منصوب، أى : يظهر موسى الفساد. وقرئ يظهر، بتشديد الظاء والهاء، من تظهر بمعنى تظاهر، أى : تتابع وتعاون.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٧]
وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
لما سمع موسى عليه السلام بما أجراه فرعون من حديث قتله : قال لقومه إِنِّي عُذْتُ باللّه الذي هو ربى وربكم، وقوله وَرَبِّكُمْ فيه بعث لهم على أن يقتدوا به، فيعوذوا باللّه عياذه، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه، وقال مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة، وليكون على طريقة التعريض، فيكون أبلغ، وأراد بالتكبر : الاستكبار عن الإذعان للحق، وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة صاحبه ومهانة نفسه، وعلى فرط ظلمه وعسفه، وقال لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة والجرأة على اللّه وعباده، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها : وعذت ولذت : أخوان. وقرئ : عت، بالإدغام.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٢٨]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)

__
(١). قال محمود :«كانوا إذا هم بقتله كفوه عنه بقولهم : ليس هذا ممن يخاف، وإنما هو ساحر لا يقاومه إلا مثله، وقتله يوقع الشبهة عند الناس أنك إنما قتلته خوفا، وكان فرعون لعنه اللّه في ظاهر أمره - واللّه أعلم - عالما أنه نبى خائفا من قتله مع رغبته في ذلك لولا الجزع، وأراد أن يكتم خوفه من قتله بأن يقول لهم : ذروني أقتله، ليكفوه عنه فينسب الانكفاف عن قتله إليهم، لا إلى جزعه وخوفه. ويدل على خوفه منه لكونه نبيا قوله وَلْيَدْعُ رَبَّهُ وهذا من تمويهاته المعروفة» قال أحمد : هو من جنس قوله إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ فقد تقدم أن مراده بذلك أن يظهر لقومه قلة احتفاله بهم، ويوهمهم أن قتله لهم ليس خوفا منهم، ولكن غيظا عليهم، وكان من عادته الحذر والتحصن وحماية الذريعة في المحافظة على حوزة المملكة، لا أن ذلك خوف وهلع، ولقد كذب، إنما كان فؤاده مملوءا رعبا.
(٢). قوله «و قرئ يظهر من أظهر» يفيد أن القراءة المشهورة : يظهر من ظهر، والفساد مرفوع. (ع)


الصفحة التالية
Icon