على كفه عن معاجلتى ولا تطيقون دفع شيء من عقابه عنى، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه.
يقال : فلان لا يملك إذا غضب، ولا يملك عنانه إذا صمم، ومثله فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ومنه قوله عليه السلام «لا أملك لكم من اللّه شيئا» «١» ثم قال هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أى تندفعون فيه من القدح في وحى اللّه تعالى، والطعن في آياته، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق والبلاغ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود. ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ موعدة بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا، وإشعار بحلم اللّه عنهم مع عظم ما ارتكبوا. فإن قلت : فما معنى إسناد الفعل إليهم «٢» في قوله تعالى فلا تملكون لي؟ قلت : كان فيما أتاهم به النصيحة لهم والإشفاق عليهم من سوء العاقبة وإرادة الخير بهم، فكأنه قال لهم : إن افتريته وأنا أريد بذلك التنصح لكم وصدكم عن عبادة الآلهة إلى عبادة اللّه، فما تغنون عنى أيها المنصوحون إن أخذنى اللّه بعقوبة الافتراء عليه.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٩]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
البدع، بمعنى : البديع، كالخف بمعنى الخفيف. وقرئ : بدعا، بفتح الدال، أى : ذا بدع
(١). متفق عليه من حديث أبى هريرة رضى اللّه عنه، ولما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم قريشا فاجتمعوا. فعم وخص. فقال : يا بنى كعب بن لؤي يا بنى مرة بن كعب : يا بنى عبد شمس يا بنى عبد مناف، يا بنى هاشم، يا بنى عبد المطلب، إنى لا أملك لكم من اللّه شيئا - الحديث»
(٢). قال محمود : فان قلت : ما معنى إسناد الفعل إليهم... الخ» قال أحمد : فيه نظر من قبيل أن الكلام جرى فرضا وتقديرا. ومتى فرض الافتراء لا يتصور على تقديره نصح، فان النصح عبارة عن الدعاء إلى ما فيه نفع، ولا ينفع المكلف في عمل ظاهر أو باطن إلا أن يكون مأمورا به من اللّه تعالى، ولا سبيل إلى الاطلاع على ذلك إلا من الوحي الحق لا غير، فإذا لا يتصور نصح مع الافتراء، وإنما يتم هذا الذي قرره على قاعدة المعتزلة القائلين بأن العقل طريق يوصل إلى معرفة حكم اللّه تعالى، لأنه إذا أمر بطاعة من الطاعات كالتوحيد مثلا وقال : إن اللّه حتم عليكم وجوب التوحيد، وأنا رسول اللّه إليكم. ولم يكن متعوقا : فانه محق في الأمر بالتوحيد، لأن العقل دل على وجوبه عندهم، وإن كان مفتريا في دعوى كونه رسولا من اللّه عز وجل. وهذه قاعدة قد أفسدتها الأدلة القاطعة، فيحتمل في إجراء الآية على مذهب أهل السنة : أن يكون إسناد الفعل لهم على معنى التنبيه بالشيء على مقابله بطريق المفهوم، فالمعنى إذا إن كنت مفتريا فالعقوبة واقعة بى لا تدفعونها عنى، فمفهومه، وإن كنت محقا وأنتم مفترون فالعقوبة واقعة بكم لا أقدر على دفعها عنكم. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ وأمثاله كثيرة واللّه أعلم.