لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحدّ الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم، وجهره باهرا لجهركم، حتى تكون مزيته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق «١» غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم وتبهروا منطقه بصخبكم.
وبقوله : ولا تجهروا له بالقول : إنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرّب من الهمس الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم، عاملين بقوله عز اسمه وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وقيل معنى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ لا تقولوا له : يا محمد، يا أحمد، وخاطبوه بالنبوّة. قال ابن عباس : لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر رضى اللّه عنه : يا رسول اللّه، واللّه لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى اللّه، «٢» وعن عمر رضى اللّه عنه : انه كان يكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم كأخى السرار لا يسمعه حتى يستفهمه «٣»، وكان أبو بكر إذا قدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد : أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، «٤» وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر : ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأنّ ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون، وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه، وردّه إلى حدّ يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير، ولم يتناول النهى أيضا رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدوّ أو ما أشبه ذلك، ففي الحديث : أنه قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين :

__
(١). قوله «كشية الأبلق» في الصحاح «الشية» : لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. وفيه أيضا : اللغط الصوت والجلبة. وفيه الصخب : الصياح والجلبة. (ع)
(٢). ذكره الواحدي عن عطاء عن ابن عباس. ولم يسق سنده إليه. وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق طارق بن شهاب عن أبى بكر. قال لما نزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قلت :
يا رسول اللّه آليت ألا أكلمك إلا كأخى السرار حتى ألقى اللّه» وأخرجه الحاكم والبيهقي في المدخل من حديث أبى هريرة. قال «لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ - الآية قال أبو بكر. والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول اللّه لا أكلمك إلا كأخى السرار حتى ألقى اللّه عز وجل «و قال صحيح على شرط مسلم
(٣). أخرجه البخاري من حديث أبى الزبير. قال «لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ - الآية كان عمر بعد ذلك إذا حدث النبي صلى اللّه عليه وسلم حدثه كأخى السرار. لم يسمعه حتى يستفهمه.
(٤). لم أجده


الصفحة التالية
Icon