فَاسْتَفْتِهِمْ أى استخبرهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ولم يقل : فقرّرهم، والضمير لمشركي مكة. قيل :
نزلت في أبى الأشد بن كلدة، وكنى بذلك لشدّة بطشه وقوته أَمْ مَنْ خَلَقْنا يريد : ما ذكر من خلائقه : من الملائكة، والسماوات والأرض، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة، وغلب أولى العقل على غيرهم، فقال : من خلقنا، والدليل عليه قوله بعد عدّ هذه الأشياء : فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا، بالفاء المعقبة. وقوله : أم من خلقنا، مطلقا من غير تقييد بالبيان، اكتفاء ببيان ما تقدّمه، كأنه قال : خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه، فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم الذي خلقناه من ذلك، ويقطع به قراءة من قرأ : أم من عددنا، بالتخفيف والتشديد. وأشدّ خلقا : يحتمل أقوى خلقا من قولهم :
شديد الخلق. وفي خلقه شدّة، وأصعب خلقا وأشقه، على معنى الرد لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى، وأنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون. وخلقهم مِنْ طِينٍ لازِبٍ إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأنّ ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوّة، أو احتجاج عليهم بأنّ الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا : أئذا كنا ترابا. وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقيل : من خلقنا من الأمم الماضية، وليس هذا القول بملائم. وقرئ : لازب ولاتب، والمعنى واحد، والثاقب : الشديد الإضاءة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٢ إلى ١٤]
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)
بَلْ عَجِبْتَ من قدرة اللّه على هذه الخلائق العظيمة وَهم يَسْخَرُونَ منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة اللّه، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.
وقرئ بضم التاء، أى : بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقى أنى عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء يجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممن يصف اللّه بالقدرة عليه. فإن قلت : كيف يجوز العجب على اللّه تعالى، وإنما هو روعة تعترى الإنسان عند استعظامه الشيء، واللّه تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت : فيه وجهان، أحدهما : أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام : والثاني : أن يتخيل العجب ويفرض.
وقد جاء في الحديث : عجب ربكم من ألكم «١» وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم «٢». وكان شريح
(١). قوله «من ألكم وقنوطكم» الأل : يأتى بمعنى السرعة والأنين والفساد. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). أخرجه أبو عبيد في الغريب عن محمد بن عمرو يرفعه، ثم قال : فقال : الأل رفع الصوت بالدعاء. وقال بعضهم : يرويه الأول، وهو الشدة.