إلا والحديد آلة فيها، أو ما يعمل بالحديد وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين بِالْغَيْبِ غائبا عنهم، قال ابن عباس رضى اللّه عنهما : ينصرونه ولا يبصرونه إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ غنى بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه عنهم، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٦]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦)
وَالْكِتابَ والوحى. وعن ابن عباس : الخط بالقلم، يقال : كتب كتابا وكتابة مِنْهُمْ فمن الذرية أو من المرسل إليهم، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين. وهذا تفصيل لحالهم، أى : فمنهم مهتد ومنهم فاسق، والغلبة للفساق.
[سورة الحديد (٥٧) : آية ٢٧]
ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)
قرأ الحسن : الإنجيل، بفتح الهمزة، وأمره أهون من أمر البرطيل والسكينة فيمن رواهما بفتح الفاء، لأنّ الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب. وقرئ : رآفة، على : فعالة، أى : وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. ونحوه في صفة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ. والرهبانية : ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، وذلك أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل، فخافوا أن يفتنوا في دينهم، فاختاروا الرهبانية : ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، «١»
وهو الخائف : فعلان من رهب، كخشيان من خشي. وقرئ : ورهبانية بالضم، كأنها نسبة إلى الرهبان : وهو جمع راهب كراكب وركبان، وانتصابها بفعل مضمر «٢»
يفسره

__
(١). قال محمود :«الرهبانية : الفعلة المنسوبة للرهبان... الخ» قال أحمد : وفيه إشكال، فان النسب إلى الجمع على صيغته غير مقبول عندهم حتى يرد إلى مفرده، إلا أن يقال : إنه لما صار الرهبان طائفة مخصوصة صار هذا الاسم - وإن كان جمعا - كالعلم لهم، فلحق بأنصارى ومدائنى وأعرابى.
(٢). قال محمود :«و هي منصوبة بفعل مضمر... الخ» قال أحمد : في إعراب هذه الآية تورط أبو على الفارسي وتحيز إلى فئة الفتنة وطائفة البدعة، فأعرب رهبانية على أنها منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر، وعلل امتناع العطف فقال : ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جَعَلْنا مع وصفها بقوله ابْتَدَعُوها لأن ما يجعله هو تعالى لا يبتدعونه هم، والزمخشري ورد أيضا مورده الذميم، وأسلمه شيطانه الرجيم، فلما أجاز ما منعه أبو على من جعلها معطوفة : أعذر لذلك بتحريف الجعل إلى التوفيق، فرارا مما فر منه أبو على : من اعتقاد أن ذلك مخلوق للّه تعالى، وجنوحا إلى الاشراك واعتقاد أن ما يفعلونه هم لا يفعله اللّه تعالى ولا يخلقه، وكفى بما في هذه الآية دليلا بعد الأدلة القطعية والبراهين العقلية على بطلان ما اعتقداه، فانه ذكر محل الرحمة والرأفة مع العلم بأن محلها القلب، فجعل قوله فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ تأكيدا لخلقه هذه المعاني وتصويرا لمعنى الخلق بذكر محله، ولو كان المراد أمرا غير مخلوق في قلوبهم للّه تعالى كما زعما : لم يبق لقوله في قلوب الذين اتبعوه موقع، ويأبى اللّه أن يشتمل كتابه الكريم على مالا موقع له، ألهمنا اللّه الحجة وتهج بنا واضح المحجة، إنه ولى التوفيق وواهب التحقيق.


الصفحة التالية
Icon