مجاز القرآن، المقدمة، ص : ١٥
فى هذا شأن غيره من المتحدثين الذين كانوا يكرهون التزام الإعراب وسلوك سبيل «التقعير» فى حديثهم العادىّ. وأما أنه كان لا يقيم البيت من الشعر، وأنه كان يلحن فمردّه فيما نرى ضعف الملكة التطبيقية عند أبى عبيدة، وهو أمر مألوف غير غريب حين تتسع الفروق وتعظم بين لغة الحياة اليومية ولغة العلم والأدب، أما ما رآه أبو عبيدة من آراء نحوية وخالفه فيها النّحاة وخطّأوه فهو الأمر الذي يجب أن يكون له محمل يليق بمكانة أبى عبيدة العلامية.
والذي نرجو أن يكون صوابا فى مسلك أبى عبيدة أنه كان يعتمد على حسه اللغوي الخاص فى إعراب آيات أو أشعار بدون أن يقدر ما كانت تؤسسه المدرسة النحوية فى عهده من قواعد تلتزم السير عليها ولا تتعداها، ومن هنا جاء نكيرهم عليه.
على أن اتجاه أبى عبيدة الذي انصرف فيه- قاصدا أو غير قاصد- عن مسلك النحويين من معاصريه لم يعدم تقديرا من الدّارسين المعاصرين الذين يعنون بتاريخ النحو العربىّ فأبو عبيدة التفت إلى أبواب من سر العربية حال دون الاستفادة منها مسلك النحاة بما أحكموا من قواعد وأسسوا من أسس «١».
الحس الفنى عند أبى عبيدة
ويتصل بهذا أن أبا عبيدة لم يكن راوية وأخباريا جافا «٢» وحسب، وإنما كان- إلى وفرة محصوله العلمي- يدرك ما فى اللغة والشعر من جمال فنى، ويقف عنده، ويقارن الصور الشعرية بعضها ببعض، ثم ينبه على المعاني الجديدة الخاصة بكل شاعر «٣»، وفى التراث الأدبى العظيم الذي خلّفه لنا أدلة واضحة على هذا.
(١) إحياء النحو لابراهيم مصطفى ص ١٢.
(٢) العقد الفريد (بولاق) ١/ ٣٣٣. جولد زيهر. ١/ ١٩٥.
(٣) الشعراء ص ٧٦، ٨٢، ١١٩، الأغاني ٢/ ٤٤، ٢١/ ١٣٧.
مجاز القرآن، ج ١، ص : ١٣
آمَنَ بِاللَّهِ» (٢/ ١٨٩) خروج المعنى البارّ. وقال :«أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً» (٢١/ ٣٠)، والرتق مصدر وهو فى موضع مرتوقتين، وقال :«أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ»
(١٩/ ١٩) أي رسالة ربك.
ومجاز ما قرأته الأئمة بلغاتها فجاء لفظه على وجهين أو أكثر، من ذلك قرأ أهل المدينة «فَبِمَ تُبَشِّرُونَ» (١٥/ ٥٤) «١» فأضافوا بغير نون المضاف بلغتهم، وقال أبو عمرو : لا تضاف تبشّرون إلّا بنون الكناية كقولك تبشّروننى.
ومن مجاز ما جاءت له معان غير واحد، مختلفة فتأولته الأئمة بلغاتها فجاءت معانيه على وجهين أو أكثر من ذلك، قال :«وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ» (٦٨/ ٢٥) ففسروه على ثلاثة أوجه قال بعضهم : على قصد، وقال بعضهم :
على منع، وقال آخرون : على غضب وحقد.
ومن مجاز ما جاء على لفظين وذلك لاختلاف قراءات الأئمة، فجاء تأويله شتى فقرأ بعضهم قوله :«إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» (٤٩/ ٦)، وقرأها آخرون :«فتثبّتوا» وقرأ بعضهم قوله :«أ إذا صللنا فى الأرض» (٣٢/ ١٠)، وقرأها آخرون «أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ»، صللنا : أنتنا من صلّ اللحم يصل وقرأ بعضهم : وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» (٢٢/ ٤٥)، وقرأها
(١) فبم تبشرون : فى التيسير للدانى ١٢٦ : نافع «فبم تبشرون» بكسر النون مخففة، وابن كثير بكسرها مشددة، والباقون بفتحها.