ج ١، ص : ٤٩٣
رحمة اللّه، وكان نقضهم الميثاق مفسدا لفطرتهم مدنسا لنفوسهم، فإن الذنب الذي يرتكبه الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب. فإذا كثرت المعاصي اسود القلب وأصبح في أكنة، لا يصل إليه النور والهدى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ « ١ » ولذلك رأيناهم يقتلون الأنبياء بغير حق، ويفترون على مريم البتول وابنها عيسى الذي أرسل لهم يهديهم سواء السبيل، بل حاولوا قتله وافتخروا بذلك وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ « ٢ » فبسبب هذا بعدوا عن رحمة اللّه وطردوا منها شر طردة وأصبحت قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قساوة، وصاروا يحرفون الكلم عن مواضعه فيقدمون ويؤخرون، ويحذفون منه، ويغيرون معناه ويبدلون، ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين، وقد نسوا حظا من التوراة كبيرا.
ذلك أن موسى - عليه السلام - توفى والتوراة التي كتبها وأمر بحفظها نسخة واحدة قد فقدت باتفاق المؤرخين من اليهود والنصارى عند سبى البابليين لهم وإغارتهم عليهم، ولم يكن عندهم غيرها وما كانوا حفظوها كلها، نعم هناك أسفار خمسة تنسب إلى موسى - عليه السلام - فيها أخبار عن موته وحياته وأنه لم يقم أحد بعده مثله، كتبت بعد موته بزمن طويل، قيل : كتبها عزرا الكاهن معتمدا على ما بقي عند شيوخهم الذين بقوا بعد الأسر والقتل.
أفلا تراهم نسوا حظا كبيرا، وكما يقول القرآن في موضع آخر : أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ « ٣ » ومن العلماء من يرى أن معنى الآية أنهم تركوا أحكاما كثيرة من التوراة.
واللّه أعلم بكتابه.
ألا ترى أن هذا من أعظم المعجزات على صدق الرسول محمد صلّى اللّه عليه وسلّم حيث أخبرهم بدخائل نفوسهم!! وأما أنت يا محمد فلا تأس عليهم، ولا تعجب من عنادهم فها هم قديما قد فعلوا كل شيء، ولا تزال تطلع منهم على خيانة تصدر منهم على سبيل المبالغة، إلا قليلا منهم ممن آمن وحسن إيمانه.
وإذا كان الأمر كذلك فاعف عنهم واصفح إذا تابوا، أو بذلوا الجزية، إن اللّه يحب المحسنين.
(١) سورة البقرة الآية ٧. [.....]
(٢) سورة النساء الآية ١٥٧.
(٣) سورة آل عمران الآية ٢٣ والنساء ٤٤ و٥١.