ج ٣، ص : ٣٩٢
وأجداده مؤثرا الدليل والنظر السليم، على تقليد الآباء في الباطل : وإن حالكم أيها العرب لعجيب!! فإذا كنتم مصرين على التقليد مغرمين به فها هو ذا أبوكم إبراهيم أشرف العرب قاطبة أحق بالتقليد من غيره، فقلدوه في هجر الأصنام، وترك عبادة الأوثان واحتقار ما عليه الآباء والأجداد إذا كان منافيا للعقل والمنطق السليم.
واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه : إننى برىء منكم، وبرىء مما تعبدون من دون اللّه حيث إنها أصنام لا تنفع ولا تضر، لكن اللّه خلقني فسوانى، وفطرني وأتمنى على أكمل صورة فإنه سيهدينى مستقبلا، ويهديني حالا، إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ تقوم مقام قولك :(لا إله) وقوله : إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي تقوم مقام (إلا اللّه) فكأنه قال : لا إله إلا اللّه، ومعلوم أن هذه - لا إله إلا اللّه - كلمة التوحيد، وإبراهيم الخليل جعلها باقية في ذريته وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ : يا بَنِيَّ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ « ١ »
جعلها كلمة باقية في عقبه، ووصى بها بنيه لعلهم يرجعون إلى التوحيد الخالص البريء من الشرك في كل صوره وقد كان ذلك كذلك، فلا يزال في عقب إبراهيم وذريته من يعبد اللّه حقا إلى يوم القيامة ولكنهم قلة فلم يرجع أكثرهم عن الشرك، وما عاجلهم ربك بالعقاب الذي يستحقونه بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ على معنى : بل أعطيتهم نعما أخرى غير الكلمة الباقية ليشكروا صاحبها ويوحدوه، ولكنهم لم يفعلوا بل زاد طغيانهم لغرورهم بالدنيا وتمسكهم بحبها، فاللّه - سبحانه وتعالى - لم يكتف بأن جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم بل متعهم بالنعم التي لا تحصى، وأرسل لهم رسلا حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ أى : جاءهم الحق على لسان رسول بين المعجزة ظاهر الصدق، فانظر إلى هؤلاء المشركين : زادهم اللّه من نعمه وأمدهم بفضله، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا وضلالا، فلما جاءهم الحق من عند اللّه قالوا : هذا سحر، وإنا به كافرون.
هذه المواقف العجيبة منهم وتلك الأباطيل رأسها وأساسها حب الدنيا وتمتعهم بنعيمها الباطل، واعتقادهم أنها كل شيء، ولذلك قالوا منكرين كون محمد اليتيم الفقير رسولا من عند اللّه. قالوا : لو لا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! أنكروا أساس النبوة فلم يفلحوا فلجأوا إلى طريق آخر فقالوا : النبوة والرسالة درجة رفيعة

_
(١) - سورة البقرة آية ١٣٢.


الصفحة التالية
Icon