ج ٣، ص : ٣٩٥
المعنى :
لقد وصف اللّه الكفار بأن في أعينهم ضعفا في البصر، والمراد أنهم يتعامون عن الحق، وهنا وصفهم بالصمم والعمى فكان ترتيبا طبيعيا، وتصويرا رائعا لما عليه الإنسان عند أول اشتغاله بالدنيا وتعلقه بها، يكون كمن في عينه رمد بسيط ثم إذا أوغل فيها وتمكنت منه كان كالأعمى والأصم.
والمراد إنكار وتعجيب من أن يسمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مهما كان من في أذنه صمم وفي عينه عمى كان مستقرّا في الضلال المبين لا يفارقه ولو إلى حين، على أن المقصود بالعمى والصمم هو عمى القلب وصممه فهو عمى معنوي لا حسى، ومن كان كذلك فقد ختم اللّه على قلبه، وجعل على عينه حجابا كثيفا فلن يبصر شيئا ولن يسمع خيرا أبدا، وهؤلاء لا تقدر أنت يا محمد على هدايتهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وتظن أنك قصرت في دعوتهم أبدا، فإما نذهبن بك ونتوفينك إلينا قبل أن ترى عقابهم في الدنيا، فثق أنا منهم منتقمون أشد انتقام لموقفهم هذا، وإما نرينك في حياتك الذي وعدناهم من الذل والهوان ونصرة الحق، ودخول الناس في دين اللّه أفواجا فإنّا عليهم مقتدرون، واللّه بكل شيء محيط. وعلى كل شيء قدير. فكن قرير العين مطمئن القلب إلى نصر اللّه، واللّه ينصر من يشاء.
وإذا كان الأمر كذلك فاستمسك بالذي أوحى إليك من القرآن، وتمسك بأهدابه واحرص عليه، واعمل به، وادع الناس إليه مهما كلفك هذا.
لما ذا ؟ لأنك ما دمت متمسكا به فأنت على الصراط المستقيم.
وعلى أنه ذكر لك ولقومك، وشرف عظيم وأى شرف يدانيه لك ولقومك ؟
فالعرب - كما يقص علينا التاريخ - كانوا قبل البعثة المحمدية محصورين في شبه الجزيرة العربية لا يحس بهم أحد من جيرانهم، وكانوا في شظف من العيش، وتحلل في الخلق، وتقاتل وتنازع لأتفه الأسباب، وكانوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش ٣، ٤].
فلما أراد اللّه أن يبرز من هؤلاء الرعاة الجفاة الغلاظ الأكباد المتقاطعين المتباذلين أمة ذات حضارة ومدنية وعلوم ومعارف، ونهضة وحكومة، وجيش وقيادة، أمة لها