ج ٣، ص : ٥٢٣
وحديث النفس، ولا غرابة في ذلك، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهذا تمثيل لكمال القرب، مع أن اللّه منزه عن الحلول في مكان وزمان، فهو قرب علم به وإحاطة بأحواله كلها فكأن ذاته قريبة منه « ١ ».
ومع كمال العلم بالإنسان، وتمام الإحاطة بأحواله، ونفاذ قدرته عليه، وكل به ملكين يكتبان ويحصيان عليه عمله، إلزاما للحجة، وقطعا للمعذرة.
فاللّه أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان اللذان يأخذان عنه ويحصيان عليه، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، ما يلفظ الإنسان من قول، ولا يعمل من عمل إلا لديه ملكان موصوفان بأنهما رقيبان وعتيدان، فكل منهما رقيب، أى : حافظ للأعمال متتبع لأمور الإنسان، يحصيها ويسجلها، وكل منهما عتيد، أى : حاضر مهيأ معد لذلك.
وقال بعض العلماء : في هذه الآية رهبة وهيبة وخوف وفزع لقوم، وسكون وأنس وطمأنينة لقوم آخرين، فهنيئا للعاملين المؤمنين، وبؤسا وهلاكا للكافرين والفاسقين!! ويا حسرة على العصاة والمذنبين! حيث ينزل بهم الموت وفزعه، فتراهم سكارى من هول ما يلاقونه وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ نعم كل إنسان يلاقيه الموت وشدته وتغمره غمرته التي تغلب عقله، وتلهيه عمن حوله، ويشغله عن ماله وولده، وعند ذلك يظهر له الحق، ويتضح له الأمر، ويدرك مكانه، ويرى عمله وأن ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه ولا مراء، تلك مواقف شديدة على غير المؤمنين، أما المؤمنون فعند سكرات الموت يبشون ويفرحون لما يرون من مقدمات الخير الذي ينتظرهم.
ذلك هو الموت وما فيه، الذي كنت أيها الكافر منه تحيد وعنه تميل.
ونفخ في الصور النفخة الثانية ليقوم الناس لرب العالمين، ذلك الوقت الذي أوعد اللّه به الكفار والعصاة، وانظر - رعاك اللّه - إلى قوله : وجاءت كل نفس معها سائق
(١) - فيه إشارة إلى أنه تجوز عن قرب العلم بقرب الذات.