ج ٣، ص : ٦٨٠
اتخذوا أيمانهم التي تعودوا الحلف بها كذبا، اتخذوها جنة لهم ووقاية، فهم كلما ظهر منهم شيء يوجب المؤاخذة حلفوا عليه كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم - كما روى البخاري في سبب النزول - واتخاذ الأيمان جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، فهم صدوا عن سبيل اللّه من أراد الدخول في الإسلام، واستمروا على ذلك، وقرئ (إيمانهم) والمراد ما كانوا يظهرونه من إسلام ليكون وقاية لهم من القتل أو الأسر، إنهم ساء ما كانوا يعملون من النفاق وما يتبعه.
ذلك - والإشارة إلى أنهم أسوأ الناس عملا أو إلى ما حكى من نفاقهم وكذبهم وأيمانهم - بسبب أنهم آمنوا نفاقا وكذبا، ثم كفروا، أى : ظهر من أقوالهم وأفعالهم، فطبع على قلوبهم وختم عليها بالخاتم حتى لا يدخلها نور الحق، فهم لا يفقهون الحق والطريق السوى.
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم لقوتها وتناسب أعضائها، وإن يقولوا تسمع لقولهم لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحسن كلامهم في الدنيا، والخطاب في الآية لكل من يصلح للخطاب أو لسيد المخاطبين صلّى اللّه عليه وسلّم وكانوا يحضرون مجلس الرسول كأنهم خشب مسندة، شبهوا وهم جالسون مستندون إلى الحائط بالخشب المسندة، إذ لا روح فيهم يعقل، ولا بصيرة تبصر الخير، فهم كما نقول : أصنام أو كراسي.
وهم لفرط هلعهم، وشدة خوفهم من أن ينزل فيهم قرآن يفضحهم، ويظهر طويتهم يحسبون كل صيحة واقعة عليهم، هم العدو الكاملون في العداوة، إذ لا أخطر من العدو المنافق الذي يضحك لك، وقلبه يتميز غيظا منك، فاحذرهم.
روى البخاري عن زيد بن أرقم قال : كنت مع عمى فسمعت عبد اللّه بن أبى بن سلول يقول :« لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتى ينفضوا » وقال :« لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل » فذكرت ذلك لعمى فذكر عمى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى عبد اللّه بن أبى وأصحابه فحلفوا ما قالوا وصدقهم رسول اللّه، وكذبني، فأصابنى هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي فأنزل اللّه - عز وجل - :
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إلى قوله : هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلى قوله : لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فأرسل إلىّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثم قال :« إن اللّه صدقك »