ج ٣، ص : ٧٧٨
ولما كان قوله محض افتراء، ونهاية الإعراض عن الحق والإيمان، وكان ناشئا عن كبر وغمط للحقوق عبر عنه القرآن بقوله : ثم أدبر واستكبر، فماذا قال ؟ قال : إن الكلام الذي سمعته ما هو إلا سحر يؤثر عن السحرة من البابليين والآشوريين والمصريين، ثم أكد رأيه بأنه سحر معروف وليس من كلام اللّه بقوله : ما هذا إلا مثل قول البشر الذين عاشوا في القرون الماضية.
ما جزاء هذا ؟ سأرهقه صعودا، سأصليه سقر « ١ » وما أدراك ؟ ما سقر « ٢ » ؟ أى شيء أعلمك ما سقر ؟ وهذا استفهام يراد به التعجب من هول سقر، وأنه مهما فكر فيها المفكر لا يمكنه أن يعرف من أمرها إلا ما عرفه الوحى من أنها لا تبقى على شيء يلقى فيها إلا أهلكته، ولا تذر أحدا من الفجار يفلت منها، وهي لواحة للبشر تجعل أجسامهم قطعا سوداء متغيرة، عليها تسعة عشر، وهم خزنتها الموكلون بخدمتها وهل هم تسعة عشر ملكا أو صنفا أو صفا أو نقيبا ؟ اللّه أعلم بذلك، وليس لنا أن نبحث في ذلك بعد قوله تعالى : وما أدراك ما سقر ؟ على أن المخاطب بذلك سيد البشر.
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، أى : ليسوا بشرا، وهذا رد على من قال :
سأكفيكم هذه الآية : ثكلتكم أمهاتكم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من هؤلاء!! فيرد اللّه عليهم : ليس هؤلاء بشرا بل هم ملائكة، فاسألوا عنهم عادا وثمود وأهل قرى قوم لوط، فإنهم يعرفون الملائكة وقوتهم.
وما جعلنا عدتهم - تسعة عشر - إلا ابتلاء واختبارا للناس، وكانت فتنة وضلالا وإعراضا عن الحق، حيث كفر المشركون بهذا وضلوا، فكانت عاقبة أمرهم ضلالا وإعراضا. أما المؤمنون بالنبي صلّى اللّه عليه وسلّم من المسلمين وأهل الكتاب فازدادوا يقينا على يقينهم، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون بل هم متيقنون، وكان ذلك ليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق كالمنافقين، وليقول الكافرون بالوحي : ماذا أراد اللّه بهذا ؟
أى : ماذا أراد اللّه بهذا القول - عدتهم تسعة عشر - الذي يشبه المثل في الغرابة والبداعة ؟ فيخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر.
(١) تعرب هذه بدلا من الأولى بدل اشتمال.
(٢) ما أدراك (ما) مبتدأ و(أدراك) خبر، وجملة (ما سقر) ساد مسد المفعول الثاني لأدرى، وإعرابها خبر مقدم وسقر مبتدأ مؤخر.