لطائف الإشارات، ج ٣، ص : ٤١٠
و إبراهيم عليه السلام أتى بعده شرع كشف سرّه، ونبيّنا صلى اللّه عليه وسلم لم يأت بعده شرع.
ويقال : نبيّنا صلى اللّه عليه وسلم أخبر الحقّ عنه بقوله :«آمَنَ الرَّسُولُ «١»...» والإيمان هو العلم - وإخبار الحقّ سبحانه عنه أتمّ من إخباره بنفسه عن نفسه :«عَلِمْتَ».
ويقال : فرق بين موسى عليه السلام لمّا احتاج إلى زيادة العلم فأحيل على الخضر، ونبيّنا صلى اللّه عليه وسلم قال له :«وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً «٢»»... فكم بين من أحيل في استزادة العلم على عبد وبين من أمر باستزادة العلم من الحق!!.
و يقال لمّا قال له «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «٣»» كان يأمره بالانقطاع إليه عن الخلق، ثم بالانقطاع منه - أي من الرسول - إليه.. أي إلى الحق سبحانه. والعبد إذا قال هذه الكلمة على سبيل العادة والغفلة عن الحقيقة - أي كان بصفة النسيان - فليس لقوله كثير قيمة كأن تقال عند التعجب من شىء.. فليس لهذا قدر. أمّا إذا قالها مخلصا فيها، ذاكرا لمعناها، متحققا بحقيقتها.. فإن كان بنفسه فهو في وطن التفرقة.. وعندهم «٤» هذا من الشّرك الخفيّ، وإن قالها بحقّ فهو الإخلاص. فالعبد يعلم أولا ربّه بدليل وحجّة فعلمه بنفسه كسبيّ.. وهو أصل الأصول، وعليه ينبنى كل علم استدلالى «٥»! ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وزيادة الحجج، ويتناقص علمه بنفسه لغلبات ذكر اللّه على القلب. فإذا انتهى إلى حال المشاهدة، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه في تلك الحالة ضروريا. ويقلّ إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلاليّ وكأنه غافل «٦» عن نفسه أو ناس لنفسه.
(١) آية ٢٨٥ سورة البقرة :«آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ».
(٢) آية ١١٤ سورة طه.
(٣) هنا يفرق القشيري بين التوحيد المنطوق باللسان، والتوحيد عند أرباب الحقيقة.
(٤) أي عند أرباب الحقائق، لأن أي شعور بالغيرية نتيجة عدم الإخلاص نقص في التوحيد.
(٥) من هذا يتضح أن الصوفية لا يهملون العقل تماما بل يحترمونه في مرحلة البداية من أجل تصحيح الإيمان، ولكنهم لا يعولون عليه تماما في بقية معراجهم الروحي. وهذا رد حاسم على من ينكرون على الصوفية علاقتهم بالعقل والعلوم العقلية.
(٦) في ص (و كأنه قال) وهي خطأ من الناسخ كما هو واضح من السياق بعده.